علي وجيه
هل يفتقدُ الحريّة، ذلك الذي لم يتذوّقها؟ أضع في ذهني هذا السؤال وأنا أتجوّل في صفحات عدد كبير من الشباب العراقيّ، وهم يتخذون مكانة لا تليق بهم، أعني أن يكونوا جزءاً من جماعة، فحسب، وأن تكون ضمن جماعة،
فهذا لا يعني أنّك سيئ بالضرورة، لكن أن يكون وجودك الوحيد هو بوصفك جزءاً منها، فهذه الإهانة الكبرى لأشياء عديدة، منها ذلك العضو المسكين في رأسك، ولحظتك في 2020، وتأريخك نفسه الذي يحرّضك على الاجتهاد وتعدد القراءات، وغيرها من أدوات التفكير المنطقي.
ورغم ما يقدّمه الجهل، والتبعيّة، من طمأنينة وهدوء، لصاحبه، إلاّ أنه يهب الجحيم لمَن حوله، فضلاً عن إمكانية وصوله للحظة موته دون أن يحرّك شيئاً على هذه الأرض، يكتفي أن يكون مجرّد كائن حيّ متنفّس، وحاوية لحمل توجيهات الجماعة، مهما كانت هذه الجماعة.
تولد بين الجماعة بوصفك "البرغي" الذي يتمّم عمل الماكنة، لا قيمة لك خارجها، تصطفُّ مع أخوتك لإكمال عملها، أنت تحمل اسم الجماعة، وصفها، ملابسها، سلوكها، ويوم تختارُ الخروج عنها، ستلتفتُ إليك وتفرمك، بوصفك إبناً عاقاً، لم يعرف الهناءة لولا هذه الماكنة، ولن تنقذ نفسك إلاّ بالارتماء بحضن ماكنةٍ ثانية، وبالغالب لن تختلف كثيراً.
هذه الكلمات ليست تعريضاً بأيّ جماعة، بقدر ما هي تقفُ ضدّ فكرة "القطيع"، لا يعني أن يكون الفرد مُبرّأً من كل انتماء، لكن أن لا يكون عنصراً خاملاً، وأن يكون التفكير النقدي، وإمكانية التراجع عن المتبنّيات في حال ثبُت خطؤها، واردة.
إن من الحقوق الأساسية للفرد أن ينتمي لو شاء، لدين أو لمذهب أو حزبٍ وعشيرة وأسرة وغيرها، لكن هذا الحق يبدو مشوّهاً إن كان الانتماء يلغي العقل، بقدر ما له أيضاً من انعكاسات سيئة على الجماعة نفسها، على المدى البعيد، فكلّ منظومة لا تجدّدُ نفسها تحكم على نفسها بالموت، أو التمظهر باتجاهات سيئة، متطرفة أو متعلّقة بالخرافات، أو مجرّد "منظومة" ذاهبة إلى المجهول.
في 2020، حيث كلّ هاتف أكبر من أيّ مكتبة عامة، وحيث مصادر المعرفة المتنوعة المتكدسة لدرجة أنك تعجز عن التعامل مع مصادر هذه المعرفة لفرط كثرتها، لا عذر لجاهل، ولا عذر لتابع، مع ارتطام الأفكار ببعضها وإنتاج الأفكار الجديدة في الفضاء العام، والبقاء في الفكرة البالية يؤشر بشكلٍ واضحٍ على عجز هذا "البرغي" حتى عن الدفاع، أو "نصرة" جماعته، أو الماكنة.
تدفعُ ثمناً كبيراً لقاء عدم الانتماء، بسبب حريّة الذهن، واستعداده للتراجع عن متبنّياته فيما لو توقّفت عن إقناعه نفسه، لكنه أفضل بكثير أمام الذات، التي لا ترتضي لجمجمة أن تكون مكبّلة، ولدماغٍ يبقى أسيرَ ما لُقّن به منذ الطفولة، أيّاً كان هذا الذي لُقّن به.
ثمّة طريقة أحبّها للتعرف على أصدقائي أكثر، وهي رؤية مكتباتهم، المكتبة هي الزقاق الخلفي للعقل الذي أمامي، ومرّةً كنتُ في بيت صديقٍ متديّن إلى حدٍ كبير، وجدتُ في مكتبته الأعمال الكاملة لعددٍ من كتّاب وفلاسفة كانت مشاريعهم الفكرية الأساسية تستهدفُ الدين، رأى العجب على وجهي، فقال: الدين الذي لا ينجحُ بالدفاع عن نفسه أمام الأفكار التي تستهدفه، ليس ديناً يستحقّ الدفاع عنه، ويوم يتوقّف الدين عن تقديم الإجابة على ما يستهدفه، ستختلفُ علاقتي به. وصدقَ الرجل، بحسب تجربته الشخصية، وعدّل كثيراً من أفكاره بسبب توقّف الدين، من وجهة نظره، عن تقديم الإجابات.
داخل الجمجمة فضاء كبير اسمه الدماغ، ليس بالضرورة أن يكون مُصيباً بتحرّكه واجتهاده، لكن بالتأكيد فإن الخطأ أفضل بكثير من بقائه معطّلاً، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع) "أعوذُ بالله من سبات العقل".