د. فالح الحمراني
تمر العلاقات بين روسيا وتركيا في فترة اختبار آخر. ومرة أخرى، ترتفع الأصوات في موسكو بأن "أردوغان سيخون" و "لا يمكن لروسيا الوثوق بالأتراك". لكن العلاقات الروسية التركية لا تتلخص في القتال في إدلب بين السوريين والأتراك، بل وحتى سوريا نفسها.
وتفاعل الجانب الروسي بجدية بالغة من تلقي سفارة روسيا في أنقرة تهديدات جدية على خلفية التصعيد في إدلب، ومصرع الجنود الأتراك على أيدي القوات السورية. وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف إن الكرملين أعرب عن ثقته في أن تركيا ستتخذ جميع الإجراءات من أجل أمن موظفي السفارة وجميع الروس. وأشار بيسكوف إلى أن موسكو وأنقرة تعملان على الموقف وتواصلان الاتصالات على مستوى الرؤساء والإدارات العسكرية ووفود الخبراء التي يتم تبادلها أيضاً. وقال السفير الروسي في تركيا أليكسي يرخوف إنه تلقى تهديدات بسبب تفاقم الوضع في إدلب. وأشار الدبلوماسي إلى أن الأحداث الأخيرة في المحافظة السورية تسببت في هستيريا معادية لروسيا في الشبكات الاجتماعية التركية. "هنا تصعيد في سوريا. أوافق على ذلك: أحداث مؤلمة للغاية وأيام مضطربة. في البداية لقى ضباط روس حتفهم، ثم توفي الجنود الأتراك. لكن بدأت صافرة وحشية في الشبكات الاجتماعية. واقتبس بعض ما جاء في التهديدات له :" ودعً الحياة ": "لن يحزن عليك أحد،" "حان الوقت لكي تحترق" " وغيرها. وأعاد الأذهان الى أن وضعاً ترتب منذ خمس سنوات بسبب الوضع في حلب. وانتهى الأمر بأزمة إسقاط تركيا مقاتلة روسية ومصرع طاقمها الذي وصفه الرئيس بوتين بانها " ضربة في الظهر"، وجريمة اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف. وحذرت وزارة الدفاع الروسية من تداعيات المعلومات غير الصحيحة، عن حجم ضحايا القوات السورية، ( 63 قتيلاً) التي تنقلها المؤسسة العسكرية التركية لقيادتها السياسية.
كما تم تكريس محادثة هاتفية يوم الأربعاء بين فلاديمير بوتين ورجب أردوغان للوضع في إدلب: ما يزال هناك خطر حدوث صدام مباشر واسع النطاق بين الجيش السوري والجيش التركي، على الرغم من وجود خسائر بالفعل من الجانبين. إن تركيا غير راضية عن قيام قوات الأسد، بدعم من روسيا ، بمهاجمة المقاتلين المرتبطين بأنقرة، وبالتالي فإنها تنتهك اتفاقيات سوتشي لعام 2018 التي أقيمت عليها مناطق ترسيم الحدود. وتنفي روسيا أي تورط وتلقي باللوم على تركيا بدورها في إمداد المسلحين بالأسلحة وانتهاك اتفاقيات سوتشي.
وتصاعد زخم الاتهامات المتبادلة بين الطرفين. وبدأ المسؤولون الأتراك، في الأيام الأخيرة ، يتحدثون مرة أخرى عن طلب مساعدة الناتو، والحديث عن أنه ينبغي على الأميركيين والحلف تقديم مساهمة ملموسة في حل الأزمة في إدلب. ولم يستبعد أردوغان إجراء مفاوضات مع ترامب بشأن موضوع إدلب، وأرسلت واشنطن وفداً من وزارة الخارجية إلى أنقرة بقيادة المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيم جيفري ، الذي أشاد فوراً بجميع "الشهداء" الذين لقوا حتفهم نتيجة القصف الروسي السوري. ولا تخفي الولايات المتحدة نواياها في اللعب على التناقضات الروسية / التركية واستعادة نفوذها في تركيا جزئياً على الأقل.
وطرح تقرير لبوابة "فزجلاد" الإخبارية على الإنترنت سؤلا مشروعا: "هل نحن بحاجة للنتظر مجددًا من أردوغان "طعنة في الظهر""، كما كان في تشرين الثاني 2015 ، عندما أسقط الأتراك المقاتلة Su-24 الروسية. موضحا :ليس بمعنى أن أنقرة ستبدأ مرة أخرى في إسقاط الطائرات الروسية، رغم أن اوردغان قد لمح لذلك، ولكن في أنها ستشن هجومًا واسع النطاق على الجيش السوري، مما يجبر روسيا إما على التدخل في الأعمال العدائية، أو رفض مساعدة السوريين، وتركهم وحدهم مع الأتراك.
ويستبعد المراقبون تطور للأحداث وفق هذا السيناريو . رغم أن أردوغان يسعى للسيطرة على شمال سوريا وجزء من إدلب إلا أنه لن يتشاجر مع روسيا بسبب الخسارة الجزئية للأراضي السورية. التصريحات الصاخبة مفهومة: الوضع في سوريا مهم للغاية بالنسبة لتركيا لأسباب سياسية وجيوسياسية وداخلية، ناهيك عن أنها مسألة تتعلق بالأمن القومي. إن سيطرة الأسد الكاملة على سوريا أمر لا مفر منه، لكن أردوغان مهتم بضمان أن تستمر هذه العملية لأطول فترة ممكنة ولا تؤثر على المناطق الحدودية التي تعتبرها تركيا مهمة وأن تكون تحت رعايتها. بمعنى أن أردوغان يروم السيطرة على جزء من سوريا حتى يتم إرجاع اللاجئين (وهناك عدة ملايين في تركيا) ونزع سلاح الأكراد المطالبين بتقرير المصير.
وكما تنم تصريحان المسؤولين فإن روسيا مستعدة لاحتساب المصالح التركية، لكنها تتفهم رغبة دمشق في استعادة وحدة البلاد بسرعة. وأسست اتفاقات سوتشي لعام 2018 ترسيم حدود مناطق النفوذ في إدلب نفسها، لكن كان من الواضح أنها لا يمكن أن تكون أبدية.
وهناك إجماع بين المراقبين بأنه وعلى الرغم من أهمية سوريا بالنسبة لتركيا، فإن أردوغان لن يخاطر بعلاقات بلاده مع روسيا. فروسيا تلعب الآن دورًا مهمًا بالنسبة لتركيا، وأصبحت علاقات البلدين متعددة الاتجاهات، ومتنوعة لدرجة أنه من الغباء ببساطة تدميرها بسبب المشكلة السورية. ولا يسع الأتراك إلا أن يفهموا أن سوريا ستستعيد سيادتها على أي حال، وسيكون عليهم أن يعيشوا جنباً إلى جنب معها. وحتى لو مارس بوتين ضغطًاً على السوريين، لإجبارهم على إيقاف جميع العمليات في إدلب، فإن هذا لن يغير شيئاً جذرياً، وسيتم ببساطة تأجيل المشكلة.
ولا يستطيع أردوغان أيضاً توجيه إنذار لبوتين – فعلاقات الزعيمين الشخصية مهمة جدًا بالنسبة له. علاوة على ذلك، فقد كان لديه بالفعل تجربة مريرة للغاية في نوفمبر 2015 ، عندما طالبه بوتين، بعد إسقاط الطائرة الروسية، بالاعتذار وجمد العلاقات الثنائية. وكانت سبعة أشهر متوترة للغاية من تجميد العلاقات، لكن أردوغان مع ذلك كتب رسالة اعتذار لبوتين. لأنه يدرك أهمية العلاقات مع روسيا. وكان على صواب: فلم يمر شهر حتى دُبرت ضده محاولة انقلاب، شارك فيها الجانب الأمريكي جزئياً. وتدهورت العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بشكل حاد رغم أنها لم تكن علاقات وردية.
منذ ذلك الحين، دخل البيت الأبض رئيس أمريكي جديد، ولكن لم يلجأ الى تطبيع العلاقات. على العكس من ذلك، فإن الضغط الأمريكي على شراء أردوغان بسبب استيراده صواريخ S-400 الروسية دفع أنقرة إلى مزيد من التأكيد على استقلالها. في الواقع ، ساعدت العلاقات الروسية / التركية بالكثير على تعزيز السيادة التركية – وبمساعدتها (وهذا ليس فقط S-400 ، ولكن أيضًا التيار التركي، وبناء محطة للطاقة النووية)، أظهر أردوغان مطالبة تركيا بان تحظى بصفة " قوة عظمى".
تتمتع تركيا وروسيا تاريخياً بالكثير من التقاطعات والتناقضات، ولكن لديهما أيضاً العديد من المصالح المشتركة، وحتى المزيد من الفرص لتصبحا أقوى وأكثر نفوذًا معًا. ويدعو الجانب الروسي الى عدم التضحية بالمصالح، ولكن بتنسيقها. وعدم التضحية بالسيادة الوطنية، بل تقويتها بمساعدة العلاقات الثنائية، واللعب المشترك على المسرح العالمي.
ويفهم أردوغان هذا جيداً. ففي معرض تعليقه على الوضع في إدلب، الذي بدأ يزداد سوءاً ، قال: "لدينا مبادرات ستراتيجية جادة جدًا مع روسيا، تندرج فيها الطاقة النووية، وخط انبوب السيل التركي وصواريخ S-400. وقال أردوغان حينها: "لا نحتاج إلى الدخول في صراع أو تناقض خطير مع روسيا في هذه المرحلة". ليس هناك شك في أن الرئيس التركي يدرك جيداً أن فلاديمير بوتين يلتزم بنفس التوجه.