ناجح المعموري
تضمن كتابي " الأطراس الأسطوري في الشعر الحديث " عدداً من الدراسات عن تبديات الأسطورة في الشعر الحديث
وتمظهرت الميثولوجيا بمستويات متباينة كشفت القدرات الذاتية للشاعر في وعي الأسطورة والعناصر الثقافية المكونة للميثولوجيا والانثربولوجيا . لأننا لا نستطيع تعطيل العناصر الثقافية الخاصة بالديانات الوثنية التي كانت وظلت بعضاً حياً من الميثولوجيا . كما وجدت في دراساتي هذه نوعاً من الذكاء الحساس الذي يعرف آلية التسلل ليس للأسطورة كلها ، بل لجزء منها وأحياناً يتضاءل الى إشارة عابرة وسريعة ، لكنها ممتلئة بالإيحاء والطاقة ومثل هذه الاستثمار كشاف عن مهارات الشاعر الذي كرس تجربته في هذا المجال ، عبر التتالي والمثير تمظهر الميثولوجيا العراقية بمساحتها الواسعة بوادي الرافدين . وهنا تتضح لنا الخبرة في وعي أساطير المحيط ، لأن معرفتها بعمق والإطلاع على تجارب متجاورة في توظيف جزء من أسطورة بحضور عربي ، مثل هذا التنوع يلعب بقوة ، متباهياً بالتعدد واختلاف التوظيف وإجراء الحفريات من أجل ملاحقة رموز شاردة تماماً ، يستدعيها المبدع المبتكر ويعيد إنتاجها ، ويجعلها مثيرة عبر حضور قوي . والملاحظة التي من الضروري التذكير بها هي تراكم التوظيف لعدد محدود من الأساطير ، لأنها معروفة على نطاق واسع في التجربة الثقافية ، ومثال بعض الوحدات السردية الخاصة بملحمة جلجامش ، الالهة عشتار والآلهة المركزية في الديانتين السومرية والاكدية . هذه الملاحظة لا تعني النمطية في الاستثمار ، لأن بعض التجارب تخلصت من التماثل وابتكرت ما يجعل فيها الطرس روحاً جديدة تومئ للأسطورة ، ولابد من الإشارة الى السيادة والقوة التي يتمتع بها السرد التوراتي والقرآني وحصراً في اسطورة ابراهيم ويوسف . لأن شخصية يوسف ذات طاقة رمزية وتنوع دلالي يختصر القضايا القومية ، لا بل يذهب نحو بؤر الهموم العربية واشكالية الصراع مع الصهيونية ، وفي هذا التوظيف انقاذ للتجربة الشعرية من السياسي والأيديولوجي والذهاب نحو الاستعاري والرمزي .
أستطيع القول إن التجارب الشعرية الجديدة متباينة ، بسبب الاختلافات بين الإمكانات الفنية للشعراء ، ولكن تظل التحققات ملفته وتستدعي العناية والقراءة ، والفحص العميق لملاحقة الاسطورة كونها من مخفيات الشعر .
تمثل التجارب الابداعية رداً على نمطية الواقع ومؤثراته التقليدية ، مثلما ارتبط التحديث بالمجالات الجديدة والعودة الى الأصول في محاولة لتأشير إطار ثقافي مختلف ساهم بفاعلية في رسم الهويات الوطنية والقومية والاستعانة بالأسطورة في التعبير عن القضايا الجوهرية في الحياة ويمكن الإشارة لحكايات وقصص تضمنتها الكتب المقدسة ، والانفتاح عليها وإعادة صوغها برؤيا معاصرة .
" على الرغم من وجود عدد من الدراسات حول هذا الموضوع في الشعر العربي لكن الأسطورة تظل بحاجة مستمرة لدراسات جديدة ، بسبب سيرورتها وعدم ثباتها ، وتستحضر هذه السيرورة فحص لها ، مختلف . إن الأطراس الأسطورية في الشعر الحديث محاولة جديدة لفحص التجارب في هذا المجال .... وكشفت هذه الدراسات ــ كما قلت ــ عن علاقة جوهرية ، كامنة بين الشعر والأسطورة . (1)
وأستطيع الإشارة وبثقة الى أن الأساطير الخاصة بثنائية الحياة والموت هي ذات السيادة القوية في التوظيف ، لأن هذه الثنائية منفتحة على احتضان كل ما كتب وما سيكون لاحقاً . وهذا ملمح لم يتم الانتباه اليه من قبل . (2)
على الرغم من تواضع منجزي في منهج النقد الأسطوري ، لكني أستطيع الإشارة لبعض المميزات التي اختصت بها هذه التجربة وهي :
1. كرست اهتماماً خاصاً ببعض التجارب المهمة في الشعر العراقي واستحقت مني تقديم كتب خاصة ، منفردة بتلك التجارب ومنها ما حققه الشاعر عبد الزهرة زكي من مهارة وتميز في توظيفاته للأسطورة وقد كشفت عن ذلك بكتابي " التفاحة والناي " وايضا لابد من الإشارة لتجربة الشعر السرياني الممثل لها بالشاعرين الأب يوسف سعيد والشاعر شاكر سيفو . واعتقد باني أول من درس تجربة الأب يوسف في كتابي " متخيل الشعر في الأساطير " .
اعتنت الفحوص بإحدى التجارب المهمة التي تميزت باليومي والمألوف والأسطوري / والديني وهي تحققات الشاعر شاكر سيفو وتبدّى هذا في كتابي " غابة العطر والنايات / الأسطوري والدينوي / وقدمت في كتابي المشار لهما كشوفاً عن المعاني التي تهيكلت عليها نصوص الشاعريين وأيضاً الأساطير المسيحية .
أهتم كثيراً بما حققته الشاعرات الكرديات في هذا المجال وهي تجربة مثيرة للاهتمام جداً .
أقدم هذا الكتاب وأتمنى أن يجد حضوره في الحياة الثقافية العراقية .
1 . ناجح المعموري / الأطراس الأسطورية في الشعر العربي الحديث / سبق ذكره / ص7 .
2 . ناجح المعموري / سبق ذكره / ص8 .