علي وجيه
وأنا أنظرُ للتاريخ الشيعي المعاصر خلال القرن الأخير، تعتصرني غصّة تجاه هذه الجماعة البشريّة، التي تمرّ بنكساتٍ تلو النكسات، التي ترتبطُ بنكساتٍ أعمق لا تكتفي بالقرن الأخير، لكن ما يعنيني هو أنّ هذه الجماعة حصلت على فرصة تاريخية منطقيّة، مثّلت نفسها من خلالها، بعد سقوط الديكتاتورية.
لكن ماذا حصل؟ وماذا تقدم هذه الطبقة الشيعية منذ مجلس الحكم حتى علاّوي وحكومته التي ربما لن تمر؟ مع أكداس الأخطاء المتتالية لعلاوي الكبير والجعفري والمالكي والعبادي وعبد المهدي، ومَن حولهم من "مشتقّات" السلطة، من أحزاب وفصائل مسلّحة وتشكيلات إضافية.
ما المشروع الذي يُمكن أن تطلقه هذه الطبقة السياسية، تجاه الجماعة المسحوقة في وسط وجنوبي العراق؟ مع استقرار المشروع الكردي إلى حدٍ كبير، وصعود المشروع السنّي بعد ترتيب أوراقه عربيّاً وأمريكياً؟
عرف السنّة خطأهم الكبير، المراهنة على الورقة المتطرّفة والمعاداة التي كانت نهجاً لسياسييهم بعد 2003، ويناور الكرد في مساحة تشبه مساحة دولة كاملة، بالتحرّك الدبلوماسي وكون محافظاتهم هي المحافظات الوحيدة التي تصلح للسكن البشري دون منغّصات، ومع صعود طبقةٍ جديدة سنّية شابة، لا تعنيها السرديّات التي أدّت إلى أن تكون المحافظات السنية حطاماً مخلوطاً بالجثث، وقبائل نصفها قاتلٌ ونصفها قتيل ونازح.
مع التلميحات التي تتحدث عن الإقليم السني، واللعب على ورقته في كلّ حين، ومع وجود إقليم كرديّ بفرض الواقع دون المسمّى، أنظرُ لخارطة العراق وهي مُجزأة، حتى أن جمل الجميع نفس الهويّة، وقالوا إننا في بلدٍ واحد، لكن الأمر على الواقع غير العاطفي مختلف جداً.
ومع صعود هذه المشاريع، تقدّم الطبقة السياسية الشيعية خلطة عجيبة لهذه الجماعة المقموعة، ابتداءً من قمع تظاهراتها منذ 1 من تشرين، وجعل المحافظات الشيعية مُخترقةً لنفوذ طهران، وغياب الدولة الواضح في كلّ التفاصيل، والارتكاس في الخلافات العشائرية، وتراجع المستوى الصحّي والخدمي، حتى لتبدو البصرة العظيمة مذبحةً لمرض السرطان دون وجود مركز تخصصي لهذا المرض الذي تسهم كثيراً في انتشاره عملية صناعة النفط واستخراجه.
علاماتياً وثقافياً، لا تصدّر الشوارع الشيعيّة ملحوقةً بالطبقة السياسية سوى مشاريع الموت، بمختلف صنوفها، ولشتّى القضايا المصيرية والهامشية، تتكدس صور الشارع بالشهداء، حتى يصل الأمر إلى أن الشاب الشيعي يتعامل بعدميّة واضحة لأنه لم يتذوّق حياةً ليخاف عليها ويدافع، والطريق الوحيد للعيش صار الانخراط بالمشاريع المسلّحة، قواتٍ أمنيةً وفصائل، والبروباغاندا المسلّطة على رأسه هي امتداح الموت والتغنّي به، ليحيا الشابُ الطهرانيّ بكرامة وأمان!
لا مشروع حياة تقدّمه السلطة الشيعية لأبنائها، ولا شوارع نظيفة أو مستشفيات مُعدّة لاستقبال البشر بأبسط الحالات، ما يمتلكونه هو الموت، والدفع بهم إلى المحارق، وقتلهم إن أراد منهم أحدٌ وطناً، التشكيك والاتهامات تحاصرهم من إعلام هذه السلطة، والطريقة الوحيدة ليسلم رأس هذا الشاب، أن يستهدف شاباً آخر، حتى بدا هؤلاء الشباب بئراً معطلة أمام قصورهم المشيدة، جيوب فارغة، وقلوب مكلومة، ويأس يكفي لقارتين.
في حين تبدأ المحافظات السنّية بالتعافي، وهذا ما يفرح كلّ وطني، وتستمرّ المحافظات الكردية بالازدهار، يتناهى إلى بيت في التجاوز، معلّقة عليه صور الأئمة، فيه امرأة عجوز منهدمة ثكلى، وأرملة صغيرة السن، مع جوقة أطفال، نشيد "نحنُ لا نُهزم، ومنّا عطاءُ الدمْ"، العطاء الذي ما توقّف لحظة منذ 14 قرناً لهذه الجماعة، دون أن يظهر قادة يقنعون هؤلاء الشباب أن بإمكانهم الحياة عوضاً عن الموت المستمر!
تأتي في ذهني غضبة عليّ في الكوفة، قبل قرون، والقومُ أبناء القوم: "أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم. مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْمٍ! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ".