د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
يدور حديث هذه الحلقة من <عمارات> عن عمارة <مسجد لشبونة> في العاصمة البرتغالية والمشيد ما بين (1979 – 1985).
وأود قبل الحديث عن عمارة المسجد، أن أتناول (ولو باختصار شديد) تاريخ وجود المسلمين على الأرض البرتغالية؛ ذلك الوجود الذي سوّغ ظهور هذا المسجد.
دعى العرب "البرتغال" بـ "غرب الأندلس"، أثناء فتح شبه جزيرة ايبيريا سنة 711 م. من قبل موسى بن نصير (640 – 716)، بمعية طارق بن زياد؛ (ولا يزال جنوب البرتغال الحالي يحمل هذه التسمية). واسم "البرتغال" مركب من كلمتين هما: "بورتو" و"غال". وتذكر الوثائق الإسلامية بان فتح البرتغال تمّ على أيدي "عبد العزيز" الابن الأكبر لموسى بن نصير، الذي فتحها عام 714م. معلوم أن تاريخ "الوجود الإسلامي" في البرتغال، مرّ بمراحل عديدة (ليس المكان هنا مناسباً لذكرها بالتفصيل)، أفضت في الأخير الى طرد "جميع" المسلمين البرتغاليين وإجبارهم الى النزوح من وطنهم نحو المغرب المجاور، بعد أن مكثوا واستقروا هناك لقرون. وتبين لاحقاً أن "الطرد" كان تنفيذاً لشرط زواج ملك البرتغال من أخت ملكة اسبانيا في سنة 1540 م. وعلى إثر تلك الواقعة خلت "تماماً" البرتغال من أي وجود إسلامي مهم طيلة قرون عديدة! لكن الوضع، بدأ في التغيير، عندما وفد كثر من مواطني المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، وبالأخص من الموزامبيق وانغولا وغيينيا بيساو وغيرذلك من المستعمرات الى عاصمة البرتغال ومدنه الأخرى، وكان من ضمنهم مسلمون يقطنون تلك المستعمرات. كانت أثنية غالبية المسلمين النازحين الى البرتغال وقتها، تعود بجذورها الى شبة القارة الهندية. وسعى أولئك النازحون في طلب إنشاء مسجد في لشبونة، عندما تقدم 10 مواطنين من سكنة لشبونة (خمسة منهم مسلمون، والخمسة الآخرون غير مسلمين) في سنة 1966 الى بلديتها بطلب خاص لإنشاء مسجد في العاصمة، إلا أن البلدية رفضت ذلك الطلب في حينها. وإثر "ثورة القرنفل" 1974، التى انهت النظام الديكتاتوري في البلاد، شهدت البرتغال موجات نزوح كبرى من سكان المستعمرات الافريقية (وكان من ضمنهم مسلمون كثر)، واستقرت غالبيتهم في لشبونة.
عاود المسلمون سنة 1975 طلبهم في إنشاء مسجد خاص بهم في العاصمة البرتغالية. وفي عام 1977، قدم رئيس بلدية لشبونة مقترحاً للمجلس البلدي بمنح أرض للجالية المسلمة كي يبنوا مسجداً عليها. وقد وافق أعضاء المجلس، هذه المرة، على ذلك المقترح، ومنحت قطعة الأرض التى شيد لاحقاً عليها "مسجد لشبونة". ووضع حجر الأساس للمسجد في 17 كانون الثاني (يناير) 1979، وتم افتتاحه في 29 آذار (مارس) 1985. وبلغت الكلفة الاجمالية للبناء حوالي عشرين مليون دولار أميركي، تم جمعها من تبرعات دول عديدة مثل الكويت والسعودية والإمارات وعمان وليبيا ومصر وإيران والباكستان، فضلاً على تبرعات الجالية المحلية المسلمة في البرتغال.
اضطلع بإعداد تصاميم مبنى المسجد المعماريان البرتغاليان وهما: "انطونيو ماريا براغا" Antonio Maria Braga و "جواو باولو كونسيساو" (1950 – 2011) Joảo Paulo Conceiḉậo ؛ وجاء بمساحة اجمالية تقدر بـ 2760 متراً مربعاً، مما جعله ليكون ثالث أكبر مسجد في أوروبا خارج تركيا. وهو بارتفاع أربعة طوابق، كما أنه يتسع لحوالي 750 من المصلين الرجال، وثمة مصلى خاص بالنساء يقع في الطابق العلوي يتسع لـ 200 مصلّية. ومن ضمن فضاءات المسجد هناك مكتبة تتميز بقبتها ذات اللون الأخضر، تحتوي على العديد من الكتب الدينية والمخطوطات والمراجع. وبالإضافة، طبعاً، الى تضمين مبنى المسجد أحياز ضرورية وملازمة لعمل المسجد، مثل قاعة محاضرات، وفضاءات خاصة بالوضوء وأخرى متممة لعمله.
يتوق معماريو المسجد أن تكون مقاربتهم التصميمية، متسقة مع الحراك المعماري الذي يسم منتج العمارة الأوروبية، وأن لا يكون قطعا ضمن ما يسمى بمحاولات لـ "مُعارضات" "باستيشيه"Pastiche ، معنية أساساً في استنساخ ما تم تحقيقة سابقاً من تصاميم خاصة بموضوعة المسجد الاسلامي. بل ونرى أن مصممي المسجد ينزعون لأن تكون محاولتهم التصميمية هذه، مُقيمة وفاعلة ضمن ما يعرف الآن بـ "العمارة الاوروبية الإسلامية"، أو ما يسمى: Euro –Islam Architecture؛ ذلك المفهوم الذي تحدثت عنه في دراسة سابقة لي كتبتها قبل سنين. وكما أشرت في تلك الدراسة، فإني أعني بهذا المفهوم..تلك الظاهرة المعمارية الجديدة التى بدت تتجلى وتتكرس في الممارسة التصميمية، مثيرة اهتمام كثير من المتابعين للشأن المعماري، وخصوصا اؤلئك المهتمين في ما يتعلق بقضايا تصميم مباني المساجد الاسلامية المعاصرة. وينطوي مكان هذه الظاهرة ومرجعيتها التصميمية على إمكانات واسعة وغير متوقعة، بمقدورها ان تقدم حلولا كفوءة وعابرة لآحادية الطرح التصميمي في عمارة المسجد الاسلامي. وهذه الظاهرة هي ظاهرة جديدة في الخطاب، كما ان مصطلحها المشبع بمفارقته والمتناقض ظاهريا، مثيراً للاهتمام والنقاش معاً. وفي تلك الدراسة حاولت ان اشير الى بعض سمات تلك الظاهرة، عندما كتبت.. تتسم ظاهرة "العمارة الاوروبية الاسلامية" اذن، بسمات خاصة نابعة من طبيعة المكان وثقافته الموسومة بالتعدد والتجريب، وخلوها النسبي من "التابوهات" وتداعياتها. فهي تعبر عن واقع معاش له خصوصيته وله متطلباته؛ وتشهد على حضور ثابت وفاعل للمسلمين في الحياة الأوروبية، (بحسب إحصائية عام 2016م .، يقدر عدد المسلمين في أوروبا بما يقارب من 25.8 مليون مسلم باستثناء مسلمي تركيا، أي حوالي 4.9 % من إجمالي سكان أوروبا، المقدر عددهم 520.8 مليون نسمة. <راديو "يورو نيوز" في 30/11/2017 عن مركز أبحاث "بيو">. وعمارة هذه الظاهرة تستحضر ،كما هو مصطلحها، انجازا غنياً ومتنوعاً مشيداً في مدن القارة الأوروبية. ويقدم هذا الإنجاز لنا نماذج تصميمية معبرة قابلة للدرس والتأمل، كما يدلل على إمكانية تعدد المقاربات التصميمية، ويظهر خيار التنويع في هيئات مبنى المسجد الإسلامي".
والآن، دعونا نلقي نظرة سريعة على عمارة مسجد لشبونة، المشيد بذلك الحي الحديث في العاصمة البرتغالية والمطل على شارع أُستبدل اسمه مؤخراً في سنة 1981، الى اسم "روا دا موسكيتا" Rua da Mesquita <شارع المسجد>.
ثمة نزوع ، يمكن رصده بوضوح لدى معمار المسجد، يتجلي في اصطفائه لنوعية الحل التكويني – الفضائي للمسجد، معبراً عنه في الرغبة بالحصول على شكل هندسي صاف ومنتظم، يميل بصورة وبآخرى نحو النحتية. كما أن المعمار، هنا، لا يصبو الى اتباع ما تملية طبيعة تضاريس الموقع المعقدة والمنحدرة غير المستوية على تصميم مبناه. فسعيه واضح وراء تغاضي خصائص ذلك الموقع، وتفضيله للهندسية الصافية. من هنا يمكن تفسير محاولته في "تغليف" مبناه و"حصر" مفردات التصميم ضمن "غلاف" خارجي واضح ومميز لجهة أسلوب معالجاته الصماء Solidity. وإذ يستدعي المعمار الآجر، وامكانياته في تشكيل سطوح صلدة، لتنطيق فحوى ذلك الغلاف، فإنه يعي تماماً من أن خاصية "تكتونية" Tectonic الطابوق، بمقدورها أن تنجز تلك المهمة على قدر عال من الكفاءة . وفي النتيجة فنحن أزاء معالجة تصميمية تعتمد أساساً على واجهات بسطوح آجرية صلدة وواسعةـ تخلو مواقعها من تفاصيل مؤثرة (عدا الواجهة الغربية التى انطوت على معالجة تصميمية اختلفت عن معالجات الواجهات الآخرى). وكل هذا يراد به، من ضمن ما يراد لعمارة المسجد، أن تكون لغة المبنى التصميمية الصافية و"النظيفة" في تناقض مع "ضجيج" تشكيلات واجهات المباني المجاورة ومعاكسة لها، رغبة من المعمار في إضفاء تكريس زائد لحضور مبناه ضمن شواهد البيئة المبنية المحيطة!
في معالجاته التصميمية للمسجد، يبتغي المعمار أن تظل نوعية عمارته المجترحة تستحضر تأثيرات صيغ فنية المعالجة النحتية وانطباعاتها، وهو لهذا، يشتغل ببراعة على توظيف مفردات مبناه التصميمية، لانجاز تلك المهام التكوينية. وكما أشرنا للتو، فهو يسعى الى تأهيل الهندسية الصافية التي اشتغل عليها باتقان، لتكون جزءاً من حله التصميمي النحتي، كما يتعاطي مع وجود كتلة المئذنة (التى صيغت تشكيلاتها الفنية من خلال مداخلة "تناصية" Intertextuality حاذقة مع "ملوية جامع سامراء الكبير" (848 -852 م). ذات الشكل الفريد) بتعاطِ نحتي، تمظهر في تكعيبية فورم "لفاتها" الحلزونية. جدير بالإشارة، أن الفعل التناصي المبتدع هنا، الذي حدد شكل مئذنة مسجد لشبونة، يسبق زمنياً بعقود محاولة المعمار الاميركي "آي. أم. بي" (1917 – 2019) I.M. Pei في عمله لتصميم مبنى "متحف الفن الاسلامي" (2008) بالدوحة بقطر، الذي تشير مرجعيته التصميمية الى عمارة مسجد ابن طولون (877 -879 م.) بالقاهرة، المتأثرة هي الآخرى، كما هو معروف، بعمارة مسجد المتوكلية بسامراء في العراق.
وختاماَ، يمكن القول إن "عمارة مسجد لشبونة"، ما هي إحدى التمارين التصميمية الجادة ، التى تظهر بوضوح نجاعة محاولة اجراء مقاربة حداثية لموضوع، عدت عمارته، دوماً، من المواضيع المعمارية التقليدية، ما يجعل من تلك المقاربة (والعمارة الناتجة عنها)، لتكون إضافة مميزة في المتن الابداعي لتلك الممارسة الذكية التى دعوناها: "العمارة الأوربية الاسلامية"، الجديرة بالاهتمام، والدرس ..والتعلم!
والمعمار "جواو باولو كونسيساو"، أحد المعماريين الأثنين اللذين صمما مسجد لشبونة، ولد في 1950، وعمل حالما تخرج معماراً من "مدرسة لشبونة للفنون الجميلة العليا" عند مكتب المعمار البرتغالي الشهير "كيل دو آمارال" مابين 1977 – 78 (والمعمار آمارال، هو الذي صمم "ملعب الشعب" <1960 -1966> ببغداد). انجز "كونسيساو" عدة مشاريع لمجمعات سكنية، كما شغل استاذاً في مدرسة الفنون في "كويمرا". منح جائزة البلدية (بعد وفاته) سنة 2012، توفي سنة 2011، عن عمر ناهز 61 سنة. أما المعمار الآخر الذي اشترك مع كونسيساو" في تصميم مسجد لشبونة فهو "انطونيو ماريا براغا"، وهو معمار يعمل في منطقة لشبونة ومختص بالابنية التقليدية والكلاسيكية، كما إنه مختص في حقل "إعادة التأهيل" Rehabilitation للمباني القديمة. صمم وأعاد تأهيل عدداً من المباني في لشبونة وفي محيطها. نال مع شريكه في المكتب جائزة "مانزانو" للعمارة التقليدية في سنة 2019.