ستار كاووش
كانت جولتي هذه المرة في معرضين للرسام والشاعر موفق السَواد، حيث عرض لوحاته في مدينَتَي أمستردام وخروننغن، ورغم المسافة التي تبعد المعرضين عن بعضهما لكن (الانسجام) ربما هي الكلمة الوحيدة المناسبة للتعبير عنهما، حيث تداخلت تقنيات اللوحات ومعالجاتها مُشَكِّلَة تجربة باهرة تشبه طائراً جميلاً يحلق بجناحي الرسم والشعر.
ها أنا إذن أحمل فضولي وأتجول بين عوالم هذا الفنان الذي أخذت أعماله تسير نحو تقليلية جذابة في اللون والمفردات، حتى بدت وكأنها موشاة بغلالة غبش أبيض. أتوقف أمام اللوحات وأتمعن بمعالجاتها المتعددة وفضاءاتها الحالمة وحجومها المختلفة، وأتابع كيف تداخلت الخطوط والكتابات التي مررها فوق مساحات هذه اللوحات، لتتحول في النهاية الى عالم كاليغرافي يسبح في فضاء شعري باهر، غَفَتْ فيه مقاطع من القصائد وإمتزجت مع عطر الرسم بعد أن أضافها أو كتبها بطريقة معكوسة أو مموهة، لتنسجم وتتماهى مع الحزوز والآثار فاتحة اللون، حتى غدت اللوحات في النهاية مثل قصائد كُتِبَتْ على غيمة بيضاء تمطر في صالة العرض تعاويذ وأحجية وحروز مليئة بالسحر والغموض. هكذا يفتح لنا الفنان والشاعر موفق السَواد صناديقه القديمة ليخرج منها آثاره البعيدة، ويفرك عنها الغبار الذي راكمه الزمن لتكون النتيجة لوحات فاتنة تجذب العين وتداعب الروح وتريح البصر.
أهم ما يميز موفق السواد هي معالجاته التي تدفع اللوحات الى أبعد نقطة ممكنة، حيث لا زوائد ولا زحام ولا تفاصيل مقحمة تربك العين، لتتحول اللوحة عنده تدريجياً الى مساحات بيض تعلوها كتابة مواربة تأخذ لون الخلفية نفسها وتتماهى معها، حتى يخيل لمن يشاهد هذه الأعمال بأنه أمام ذات الأوراق التي يكتب عليها قصائده المدهشة، وذلك ما يدفعني للقول بأن السواد يعرض ديوان شعر بهيئة معرض للرسم أو ربما معرضاً يلبسُ ثياب قصيدة جديدة، لتكون النتيجة سفن بيض تبحر بنا من شط البصرة -حيث نشأة الفنان وصباه- وصولاً الى بحر الشمال حيث يعيش الآن، نُبحِر معه ونحن عارفين بل متأكدين بأننا سنصل بأمان الى الجمال الذي نبغيه، وذلك ببساطة لأن البحار هو موفق السواد.
الرسم هو أن تحمل فانوساً وتضيء من خلاله الطريق كي يرى الآخرون الأشكال والألوان بشكل جديد، وهذا مافعله موفق السَواد حين حمل مصباحه وأبحر بِنا من جادة الشعر ليضعنا في عمق الرسم وفحواه وروحه البعيدة.
عرفت موفق السواد جيداً حيث جمعتنا في هولندا عشرات اللقاءات، وفي كل لقاء يتحول كل ما بأيدينا الى ما يشبه الذهب، حيث المشاريع الفنية والثقافية، فهنا معرض للرسم، وهناك أمسية لقراءة الشعر، وفي تلك المقهى حفل توقيع كتاب جديد، ومثلما حضرنا معارض كثيرة وإبتكرنا كتباً وأماسٍ جمالية، فقد تعرفت أيضاً من خلاله على الكثير من شعراء وشاعرات هولندا حيث أثمرت لقاءاتي بهم عن مشاريع ثقافية مدهشة منها صدور كتاب (أصابع كاووش) باللغة الهولندية، والذي كتبوا فيه ٢٣ قصيدة عن ٢٣ لوحة من لوحاتي، وقد أَعَدَّ موفق السواد الكتاب وجمع القصائد واللوحات بإيثار وإهتمام لا يوصف.
عشرون عاماً من الصداقة واللقاءات التي لا تنتهي، ولم أعرف الفرق بعد، بين أن ألتقي بموفق أو أقرأ قصائده أو حتى أشاهد لوحاته، فهو يشبه كل ما يقوم به وينتجه ويمنحه للآخرين بمحبة نادرة. يقول الشاعر الهولندي يان ياكوب سلاورهوف (أنا أعيش وسط قصائدي)، وهذه الكلمات تنطبق على موفق السواد تماماً، وتختصر رؤيته للشعر والفن وحتى الصداقة. هذا الفنان الحساس والشاعر النادر الذي يعيش وسط اعماله وعالمه الذي بناه بصبر وإجتهاد يعززهما موهبة عالية وحس نادر.
هكذا يُحَلِّقُ موفق السواد بجناحي الرسم والشعر، ويهدينا لوحات مثل (نهار أبيض كالحليب) كما كان اسم كتابه الذي صدر باللغة الهولندية. تحية لك صديقي وأنت تقبض على جمرتي الرسم والشعر وتحولهما الى جوهرتين تلتمعان في الأراضي المنخفضة.