TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: المثقف وحراسة القيم

قناطر: المثقف وحراسة القيم

نشر في: 25 فبراير, 2020: 08:17 م

 طالب عبد العزيز

الذين عاصروا الكاتب والقاص محمود عبد الوهاب(1929-2011) يقولون عنه بأنه كان جميلاً وأنيقاً جداً، وغاية في التهذيب، وحتى سنوات ليست بقليلة سبقت موته، كنتُ ممن لاحظوا ووقفوا على ذلك، ومثله كان الجيل الأول من الشعراء والأدباء والمعلمين والمثقفين وعموم طبقة موظفي الدولة.

كانت الاناقة في الشكل والثياب والسلوك علامة النخبة تلك، صورة الحياة العراقية الباذخة، ومن يطالع الألبومات التي تنشرها بعض الكروبات على صفحات الانترنت يقع على المعنى الحقيقي للانسان العراقي، أو لنقل على صورة الطبقة الأولى والمتوسطة في المجتمع آنذاك.

وكان الشاعر محمود البريكان(1931 - 2002) (ستحل علينا ذكرى مقتله في نهاية الشهر ) مثالاً آخر للاناقة والجمال والتهذيب، فهو لا يخرج للقاء ضيفه إذا لم يحلق ذقنه، ولم يتعطر ولم يرتد ما يليق بمن يستقبله من ثياب، وعلى الضيف أن ينتظره الى ما شاء من الوقت، وكان طلابه في معهد المعلمين بالبصرة يتحدثون عن شغفهم بخطه الجميل على اللوح الاسود، حتى ظن بعضهم أنه، وهو يمسك بالطباشير إنما يشرع بكتابة قصيدة، لا ليدون به التاريخ والمادة ومتطلبات الدرس، وقد شهدت كثيراً من ذلك، لذا أقول: نعم هكذا كان، ومن شاهده في تجواله الاسبوعي، في شوارع المدينة على الكورنيش أو في الأزقة بالعشار أو في البصرة القديمة تصوره سائحاً، أو مستكشفاً في مدينة لم يرها من قبل.

وكنت من الذين كانوا يزورون القاص والمؤرخ والصحفي إحسان وفيق السامرائي في بيته، بعد خروجه من السجن، في تسعينيات القرن الماضي، حيث ناء الحصار بكلكله على الجميع، وقد عصفت به الاقدار بشكل قاس وموجع، إلا أنني لم أره إلا باسماً، متحرراً مما جرى له، في قاعة الخلد، والسجن الانفرادي، غير شكّاء من ذلك، أنيق الثياب، وحلو الحديث.. يكتب ويخط ويرسم ويدخن البايب، خاصته، التي عرف بها، يتحدث عن أنواع التبغ، كما لو أنه في إحدى ضواحي باريس، حتى لتشعر بجمال الكون من حوله وأنت تجالسه وتتحدث إليه. 

لم تكن صورة المحمودين(عبد الوهاب والبريكان) والسامرائي إحسان خلاصة زمن ثقافي عراقي، أبداً، فقد كانت الصورة أشمل وأعم من ذلك بكثير لحياة عراقية كاملة، وما ذكْرنا لها هنا إلا بوصفها إنموذجاً، وبوصفنا الشهود على الزمن ذاك.

ظل احترام العامة للمثقف في العراق قائماً لأنَّ المثقف ظلَّ محتفظاً بهيئته الأولى التي لا بد له منها، حريصاً على الصورة التي يعتقدها العامة فيه، مكتفياً بما عنده، حتى في ساعات العسرة، باذلاً ما بين يديه، وإن لم تعتقه وتذله الحاجة . ربما لا يعي ذلك البعض اليوم، أو لم يسمع به. وبالمناسبة هذه نقول: الصورة النمطية للمثقف في الذهنية العراقية يمكن تلخصيها بالأناقة في المظهر، والثياب والتهذيب في الحديث، والكرامة في النفس. كان نصر حامد أبو زيد يردد:" المثقف ليس كلب حراسة، إنه حارس قيم" كان الجيل ذاك حارس قيم لا حدود لها، ولعمري، لا أشقى ولا أمرَّ من مهنة كهذه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram