لطفية الدليمي
إفتح فمك لأجل الأخرس : كم تأسرني - هذه الأمثولةٌ الإنجيلية بسيطة التركيب والتي قوامُها أربع كلمات ؛ لكنها تنطوي على حمولةٍ عظيمة من الدرس الأخلاقي رفيع المستوى - ذلك الدرس الذي تعجز عنه مدوّنات لاهوتية مطوّلة أو أعراف العيش المتحضّر التي نتداولها في حياتنا اليومية
وكأنها مسلّماتٌ بديهية بمثل بداهة مسلّمات الهندسة الإقليدية ؛ لكنها تضمحلّ وتتلاشى بددا ً في إختبار الحياة اليومية المشتبكة ومعضلاتها.
الأخرس هاهنا هو كل واحد منّا ، وهو كلّ شخصٍ يعيشُ ويعمل وينجز مستوراً آمناً في حياته ولايدري أنّ ثمة من يريدُ به شرّاً أو يسعى لاغتصاب حقّ مشروع له وهو في غفلة من أمره، أو قد يسعى هذا الآخر لتشويه سمعته أو إلصاق أفعال تنسّبُ له وهو غافلٌ لايملك إمكانية الدفاع عن نفسه لأنه لم يكن طرفاً فاعلاً في محاكمة أحادية الجانب يريدُ لها أصحابها ومشعلو جذوتها المجنونة كيل التهم لكل مختلف عنهم؛ وهنا تصبح مفردة ( الأخرس ) كناية إستعارية مجازية لكلّ من لايمتلك القدرة على الدفاع عن نفسه بسبب غفلته عمّا يجري وراء ظهره؛ فيكون والحالة هذه كما الأخرس الذي تعوزه إمكانية الدفاع المشروع عن نفسه بلسانه في أقلّ تقدير.
كتبتُ هذه المقدّمة لأشير إلى وجود وقائع محدّدة دفعتني لكتابتها. تلقّيتُ قبل أيام على بريدي الخاص تنويهاً من أحد الأصدقاء حول منشور كتبه أحدهم وألقى به في مجاهل القارة الفيسبوكية مترامية الأطراف شبيهة مقبرة للمخلفات النووية المستنفدة رغم وجود القليل من الجواهر الساطعة فيها. كان المنشور الفيسبوكي ينضح أحكاماً قاطعة ظالمة - مكتوبة بلغة أقرب إلى قرار النطق النهائي بإصدارأحكام جائرة أمست تطال الكثيرين وهي في ذلك المنشور تحكم على واحد من الأدباء والمترجمين والشعراء المعروفين في العراق والذي أعرفُ كم قدّم للحركة الثقافية من مساهمات أقل ما توصف به هي أنها مساهماتٌ نوعية ممتازةٌ في ميدانها .
الحقّ أقولُ أنني أصبتُ بانذهال فجائعي وأنا أقرأ الصفحة الفيسبوكية التي ورد فيها ذلك المنشور المفتقد للمروءة والنزاهة والإنصاف؛ غير أنّ بقية المنشورات في تلك الصفحة عزّزت لدي القناعة بأنّ هذا المستوطِن الفيسبوكي لايبتغي شيئاً سوى تحطيم الأيقونات ( كما يقول في إحدى منشوراته ) والإساءة للشخصيات المنتجة في ميدانها ؛ فيمضي في توزيع الإتهامات يميناً ويساراً: هذا شاعر فاشلُ، وذاك كاتب سارق، وآخر مترجم سيئ ،وثالث روائي يكتب بصورة تقريرية، إلخ، والغريبُ في الأمر هو ذلك النفس التحريضي للمعلّقين وكأننا في محضر (مهوال) عشائري يستزيده المستمعون أوكأننا في محاكمة تعسفية تقتضي شهود زور لإثبات تُهمٍ باطلة. صحيح أنّ البعض علّق بطريقة هادئة تخالف الرأي الوارد في المنشور؛ لكنه كان تعليقاً خجولاً لايرتقي لشجاعة ردّ المظلمة الفادحة التي وقعت على ذلك الكاتب والمترجم والشاعر المكتفي بصمته وعمله.
يبدو لي وطننا أحياناً شبيهاً بمصحّة عقلية يقطنها المأزومون الذين عانت أرواحهم مرارة تشوّهات بنيوية خطيرة بسبب الكوارث التي واجهتنا، نعم، كل العراقيين ممرورون (بما فيهم أنا)؛ ولكن هل تجيز المرارة أن نوجّه سهامنا السامة ونلقي التهم جزافاً على الآخرين ممن لانخشى سطوتهم لأنهم كائنات مسالمة وديعة لاتملك أن تؤذي أحداً ؟ وهل كنّا سنفعل هذا لو كنا نعرف منذ البدء وجود منظومة قانونية صارمة تحفظ سمعة الإنسان وحقوقه المادية والإعتبارية ولاتجيزُ الإفتئات عليه حتى في الفضاء الفيسبوكي الحافل بضروب السفاهة ؟
متى سنفتحُ أفواهنا المغلقة دفاعاً عن كلّ الخُرْس المقهورين والمظلومين في بلادنا ؟