أ.د.قاسم حسين صالح
تعود علاقتي بمظفر النواب الى ستينيات القرن الماضي يوم (استضفته) في سجن بغداد المركزي قادماً من (نقرة السلمان) وشاركني فراشي في مخزن بطول (3 في 4م) كان يضم مكرم الطالباني والمقدم عبد النبي قائد قوات المظليين ومدير الخطوط الجوية العراقية..
وأنا الذي كنت أصغرهم بكثير.وكنّا نسهر ويغني ويعزف على العود بلسانه!..لدرجة أن العريف (ابو سكينه ) حارس السجن كان يأتي ويشاركنا الغناء بطور داخل حسن..وكانت تلك من أجمل ليالي العمر..وإن كانت في أقسى سجن!.
أحببت مظفر في مراهقتي وكنت أكتب مقاطع من أجمل أشعاره في الغزل بقصاصات ورق وأبعث بها الى (حبيبتي)..التي بعثت لي يوماً بقصاصة ورق فيها سطر واحد:(حبيبي قاسم..هذا الشعر مو ألك..لمظفر النواب!)..فقلت:يا آلهي..وصل مظفر حتى الى بنات الشطرة!.
ومن حبي له..اسميت ابني (مظفر) الذي صار دكتوراً في الهندسة وشخصية إعلامية معروفة ويعمل حالياً في قناة الشرقية.
في الحلقة الأولى أشرنا الى أنني ذهبت الى دمشق عام 2008 مدعواً لحضور مؤتمر للطب النفسي،وأن الفنانة هديل كامل والفنان كوكب حمزة لهما الفضل في تحقيق لقائي بمظفر النواب..الذي نستكمله الآن.
*
مظفر .. والحب !
قلت له: مثل مظفر..الشاعر..والمغني..والرسّام، لا بد أن يكون للحب نصيب كبير في حياته برغم الغربة ومشاكل السياسة والنضال.
تورّد وجهه قليلا" حين القيت عليه السؤال فاجاب إن أول تجربه له في الحب كانت في شارع الرشيد.
( كانت سيارتها "زغيره"..والشارع مزدحم..والدنيا حارة..التفت اليها فرأيت حبات من العرق تسيل على خديها..لحظتها تمنيت أن امسحها بمنديلي ) .
- والى أين وصلت قصة أول حب؟
* قطعها عام 63 ( يقصد الانقلاب البعثي)
- وهل صمت عن الحب ؟
* أبداً"..فقد احببت كثيرات.
- إذن ،هل من المعقول أن لا تكون بين الكثيرات واحدة يختارها قلبك لتكون زوجتك ؟
صفن مظفر الذي لم يتزوج في حياته وقال لي ما يحتاج الى تحليل نفسي:
* أنا أهرب من التي تبغي الزواج مني أو تطلبه بلسانها !
وعزا السبب الى أن " الشاعر يحتاج الى فراغ هائل وليس الى صخب ". وأكد لي إنه ليس بنادم على عدم زواجه( واسّر لي بقصة حب مميزة طلب أن لا أبوح بها..وسأبقيها سرّا ) ، لأن الزواج ـ في قناعاته ـ صخب ووجع رأس.
وقد يكون لهذه الحالة أكثر من تحليل غير الذي قاله ، منها : إن مظفر قد كرّس حياته الشبابية للسياسة والنضال ، وإنه أراد أن يتفرغ لهما ولا يربط نفسه بأي التزام آخر. وربما يرجع ذلك الى أنه يتمتع بـ " يقظة ضمير " تنبهه الى أن لا يحمّل الآخرين " الزوجة تحديداً" مسؤولية ما يصيبه من آلام ونكسات ولا يريد لهم أن يتعذبوا بسببه. أو إنه وجد نفسه أن الذي يتزوج " النضال " لا يصلح لأن يتزوج امرأة تكون " ضرّه " متعبة. أو ربما إنه كان في شبابه شخصية نرجسية..وهذه من خصائصها إنها ترفض أن يتوحّد بها أحد لأنها متوحدة " متزوجة " بذاتها فقط . وقد يكون ـ لا شعوريا" ـ كالمعرّي ،لا يريد أن يجني على ابنه بما أصابه هو من ضيم ،وجد أن لا أحد يطيقه غيره ، فاشفق على ابن أحسن إليه بأن لا ينجبه!.
ومع ذلك فقد منّ عليه القدر بولد يقوم على خدمته لم تنجبه له زوجة، هو شاب سوري في الثامنة والعشرين من عمره اسمه " حازم الشيخ " خريج آداب قسم الآثار، دمث الأخلاق مهذب السلوك يرعى مظفر أكثر مما يفعل الولد لأبيه..يقول أنه تعرف على مظفر كواحد من المعجبين ، وتطور الإعجاب الى صداقة قوية حتى صار يسكن معه في شقته ( تعود لسوري يسكن فيها مظفر دون مقابل ) وليس صحيحاً" ما قيل إن الشقة منحها له هذا الحزب أو ذاك أو هذه الحكومة أو تلك.
قلت له: إنك متمرد على الموت وتعرضت الى مواقف كثيرة كان يمكن أن تموت في واحد منها.
أجاب : كنت انجو من الموت باستمرار،واعتقد أن هناك قوة تحرسني.
- وهل تؤمن بالله ؟
* لدي يقين بوجود قوة خارجية تحرسني ، وهي موجودة بداخلي بالوقت نفسه.
- ومَن من رجال التاريخ أقرب الى نفسك ؟
* الامام علي وأبو ذر وسلمان الفارسي.
- لماذا ؟
* لأنهم أعطوا كل حياتهم لقناعاتهم،ولكن الزمن حاصرهم مثلما حاصر غيفارا.
- ولكن الا ترى أن الثلاثة شيعة ؟
* ما كانوا في وقتها كذلك. وقريب مني: ماركس ولينين وهادي العلوي الذي مزج الماركسية بالتصوف في فلسفة التاو.
- وهل لديك فلسفة تؤمن بها ؟
* فلسفة ابن عربي..فلسفة الحب. تصور أنني خرجت ذات يوم أتمشى في أحد شوارع دمشق وأنا بهذا العمر ( والتفت نحو حازم يسأله عن عمره ما ذا كان أربعة وسبعين أو خمسة وسبعين!،فأجابه: أربعة وسبعين ) وقد خرجت الصبايا من مدرسة ثانوية بالشارع فوجدت بنات دمشق " كلهم حلوين " فقلت بيتاً" واحداً" لا غير:
( اشكد ذقت بقلاوة شغل الشام ،
يا شغل بغداد مثلك ما لكيت !)
- فأجبته ملاطفا: يا عيني!..نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى..طبعا"، شارع الرشيد والسيارة الزغيره وحبات العرق على وجناتها ...
وابتسم مظفر..فرأيته طفلاً في ابتسامته !
مواهب..متعددة!
وسألته عن سرّ هذه المواهب المتعدده التي يمتلكها: الشعر بنوعيه الشعبي والفصيح ، الرسم ، الغناء . فاجابني جوابا" ظريفا":
* رب العالمين لم يعطني هذه المواهب بلاش..بل مقابل ما تحملته من الآم !.
- وكيف حال هذه المواهب الآن ؟
* كلها توقفت..الرسم والكتابة بسبب يدي،والحنجرة بسبب ارتعاش صوتي.
وتذكرت سهراتنا في القلعة الخامسة وكيف أشجاني حين غنى لي (أنت عمري ) وعزف لحنها بلسانه كما لو كان أمهر عوّاد.
رسالة مظفر للعراقيين
يقول مظفر أنه جاب الدنيا وسافر في بلدان العالم فلم يجد بلداً" أجمل من العراق. ولما قلت له: أنا عائد الى العراق فحملّني رسالة لمن تريد، أجاب: " رسالتي الى الشعب العراقي بكل فصائله في جملة واحدة : عظوا بالأسنان على العراق فانتم اينما ذهبتم في العالم لن تجدوا بلداً" مثله،وهذه ليست مبالغة ".
وقرأ لي آخر قصائده عن حبه للعراق الذي اضناه،وعن ثقته بأنه عائد إليه:
" يجي يوم انلم حزن الايام وثياب الصبر ونردّ لهلنا
يجي ذاك اليوم لجن انا خايف كبل ذاك اليوم تاكلني العجارب "
وختمها ببيت موجع :
" يجي ذاك اليوم..واذا ما جاش ادفنوني على حيلي وكصتي لبغداد !!".
حاولت وقتها أن اسعى الى تحقيق أمنيته فقلت له:
ويبقى مظفر النواب..هور العراق المليء بالعجائب والغرائب،ونخلته الباسقة، وجبله الأشم في كبريائه واستقامة رقبته التي لم تحنها المصائب والمحن..وسيبقى لنا منه تاريخه الأسطورة التي سيحكيها العراقيون والعراقيات لأحفادهم،برغم أن مناهجنا الدراسية بخلت عليه حتى في تضمينها واحدة من قصائده في حب الناس والوطن.
طبعت على خديه قبلتين وثالثة على الجبين..وودعته.