لطفية الدليمي
كلّما قرأتُ واحدة من سردياتنا الكبرى الملفقة تنهض في داخلي ضرورة أن نفعل مثلما فعل الكاتب البريطاني ( جون أوزبورن )
عندما كتب مسرحيته ذائعة الصيت ( أنظر وراءك بغضب ) في منتصف خمسينيات القرن الماضي : أن نقرأ تلك السرديات بغضب . الغضب هنا ليس محض ردة فعلٍ بدائية تكتفي بالرجّة العاطفية المصحوبة ببعض إنفلاتات اللسان ؛ بل هي تفكّر عميق في المهاوي الخطيرة التي آلت إليها حياتنا بفعل تلك السرديات التي سمّمت العقل والروح .
كيف السبيلُ إلى هذا ؟ الجواب - ببساطة - يكمن في إعادة النظر بالتأريخ الإنساني بكامله، ومغادرة السرديات الكبرى المُتداولة نحو سرديات بديلة قائمة على فهم جمعي إنساني جديد بخلفية مفاهيمية تغدو مرجعا جديدا يتخطى التمركزات المحلية الضيقة. سيتساءل كثيرون: أليست الآيديولوجيات العابرة للقوميات (الإسلاموية بالتحديد ) تنادي بأفضلية الفكرة التوسعية في بلدان متناثرة -على المصالح الوطنية ؟ هذه أخدوعة لاتختلف كثيراً عن الأخدوعات السائدة ؛ لأنها تريدُ ضرب المصلحة الوطنية (التي تراها جماعات الإسلاموية السياسية مصلحة ضيقة) لصالح نشر نموذج هجيني عابر للجغرافية يعمل على تعزيز توجّهات معيّنة ولخدمة مصالح محدّدة. هذه ألعوبة جديدة - قديمة من ألاعيب السحرة الآيديولوجيين، تكرس الإنغلاق على فكرة واحدة بدل مدّ جسور التواصل الإنساني المفضي إلى تعزيز الخصائص الإنسانية الرابطة بين جميع الأجناس والبلدان .
(إعادة كتابة التأريخ) : كثيراً ما طرقت أسماعنا تلك العبارة الزلقة التي ميّزت عصور السرديات الآيديولوجية الكبرى. كلّ آيديولوجيا كبرى تسعى لتلوي عنق التأريخ البشري وإدخاله في خرم إبرة تكيّف الحقائق - بل أكاد أقول تصنّعها- بحسب متطلبات الآيديولوجيا ورؤيتها حتى بات التأريخ البشري أقرب لصناعة يُشترطُ فيها أن تدعم الرؤى الآيديولوجية بطرق لم تكن تخلو من المزاجية والاعتباطية السقيمة والعنف المقصود، وكثيرة هي الأمثولات الحكائية التي كان يُرادُ لها أن تصير تأريخاً رسمياً راكزاً في المخيال الشعبي بمثل رسوخ المواضعات الكهنوتية. لا شكّ في أنّ أسبقية هذه السرديات التأريخية المدعومة وهيمنتها الطاغية بدفع آيديولوجي جاءت بسبب خفوت العقلية العلمية والتقنية وانكفاء العلم في صورة بناء مترفع وفوقي بعيد عن مخاطبة العقل الجمعي مثلما تفعل الآيديولوجيات الكبرى التي تتمترس وراء قوة الدولة الشمولية على صعيد الدولة والاقتصاد والإعلام بل وحتى فنون الخطابة واستثارة الغرائز البدائية والتمثلات الأدائية الممسرحة . الآيديولوجيا ، إذن، هي صناعة بشرية تحتمل كلّ الرؤى والتسويغات التي تحقّق لها التفوق على الخصوم المطلوب تدميرهم في نهاية المطاف ، وبالتالي إعلاء شأن فكرة شمولية واحدة بعينها يحسبها أتباعها أنها المنقذة من الضلال العالمي والانحطاط البشري .
يمكن في مرحلة تأسيسية إنتقالية ، وفي منطقتنا العربية المأزومة على وجه التخصيص ، إعتبار العلم - ومصنّعاته التقنية - نوعاً من آيديولوجيا جمعية بديلة عن الآيديولوجيات الغابرة. إنّ القول بكون العلم نمطاً من أيديولوجيا بديلة هو قولٌ ينطوي على شحنة استعارية يُراد منها الكشف عن الدور المتعاظم للعلم في حياتنا الراهنة وأسبقيته على كلّ منظومة آيديولوجية مفترضة ؛ فنحن نعرف تماماً طبيعة العلم غير الآيديولوجية التي تناقض المواضعات المتكلسة والأفكار المحنطة وتفترض التغيير المستديم الذي يتوالى محققا التجديد والتحولات العظمى. سيتباكى الآيديولوجيون المحترفون على سردياتهم الكبرى الزائفة، وسيدافعون - حدّ القتال الشرس - عن سردية الظمأ الروحي المفترض الذي تشبعه سردياتهم الملفقة متناسين كم من الدماء أهدرت وكم من العقول تلوّثت في الصراعات المستديمة لنشر تلك السرديات .
دعونا لاننسى قراءة تلك السرديات بغضب !