TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العمود الثامن : وباء المنطقة الخضراء

العمود الثامن : وباء المنطقة الخضراء

نشر في: 24 مارس, 2020: 07:34 م
علي حسين 

في الوقت الذي يعيش فيه المواطن العراقي محنة وباء كورونا .. تنشغل المنطقة الخضراء التي يعشعش فيها وباء الانتهازية والوصولية والخراب  ، بالبحث عن رئيس وزراء يحفظ لها مصالحه ، ويبتعد قدر الإمكان عن هموم الناس .

يكتب ألبير كامو في روايته الطاعون: حين يعم الوباء تزحف المقابر إلى قلب المدينة.. في قراءاتي المبكرة لم احب رواية كامو هذه فقد كنت اشعر أنها تثير الغثيان.. ومع مرور الزمن اكتشفت معنى أن يحذرنا الكاتب من جرثومة الوباء، فنحن ازاء طبيب ظل حتى اللحظة الأخيرة، ورغم كل الشواهد يعتقد أن الوباء بعيد عن مدينته، ونراه يتساءل دوما هل يعقل ان يغزو الطاعون المدينة؟ لكنه في النهاية حين يرى الناس تتساقط في الشوارع، يدرك ان الوباء قد حل. 
أتذكر أنني أعدت قراءة الطاعون فيما بعد أكثر من مرة كانت آخرها هذه الايام ونحن نعيش حصار كورونا ، لأجد نفسي إزاء حكاية أخرى للوباء الذي يفتك بنا جميعا، واعني به وباء الانتهازية والمصلحة الشخصية.. حين ينتشر الطاعون في مدينة كامو نجد الساسة والمواطنين يصبحون أسرى داخل المدينة، فيما يبدل الوباء معالم العلاقات بينهم، فنحن هنا لسنا إزاء مرض قاتل  فقط، وانما بمواجهة التغيير الذي يحصل في علاقات الناس، فالمسؤول يبيع للناس طمأنينة زائفة مقابل ان يحصل على مزيد من الثروات مستغلا خوفهم وقلقهم، ورجل دين يدعوهم إلى طريق التهلكة وهو يخبرهم ان الوباء غضب من الخالق على عبادة المنحلين، فيما البسطاء يدفعهم الخوف إلى التخلي عن مصالحهم الشخصية لمساعدة الآخرين.
في واحدة من أجمل حواراته يحاول كامو ان يعلمنا معنى ان يتربى الظلم والطغيان والوباء في احضاننا: "ينشأ الشر في العالم عن الجهل، وربما تسبب النوايا الحسنة من الضرر بقدر ما تسبب النوايا إذا افتقرت إلى الفهم، ولعل اكثر الرذائل المستعصية على التقويم هي من قبيل جهل الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدعي لنفسه الحق في قتل الآخرين". وردا على سارتر الذي كتب ينتقد صديقه لانه أخذ يؤسس لأخلاق تسقط التاريخ ولاتجاه نحو العزلة السياسية، يؤكد كامو في رسالة الى صديقه اللدود: "لا أرى مناقشة جدلية للرد عليك سوى عشق جارف للعدل وهو ما يبدو لي خارجا عن المنطق.. انك ببساطة ترى اليأس بمنظارين، أما أنا فأرى اليأس وقد توزع على الجميع.. ولا دواء للطاعون إلا بإعلاء شأن العدل ومحاربة الجور الأبدي، وان نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. في رفضي لليأس ولذلك العالم المعذب، إنما أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربا على قدرهم البغيض".
يعلمنا كامو أن الأمم لا يصيبها الوباء إلا عندما يستبيح الظلم الناس.. في موسوعته الكبيرة "صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية" يخبرنا المؤرخ ادورد غيبسون بان الامبراطوريات تسقط عندما يستبيح الحاكم لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وايضا عندما يستبيح الحاكم لنفسه استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الوطنية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح الحاكم ابواب التنكيل والتهميش والإقصاء والقتل، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن حكامها بان الحرية حق، والأمان حق، وحب الحياة حق، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادلا معهم أكثر من عدله لذاته، وان يعتبر الحكم امانة والدولة حراسة، والمال حاجة للجميع الأفراد، وان يقود الناس الى حسن الحال وحسن المستقبل وحسن المعاملة. 
في احدى قصائد بريخت  تصبح كل المدن ملعونة  فقد اصابها طاعون الاستبداد والتسلط، الا مدينة الحلم "بينارس" انها الخلاص المرتقب ، لكن الطاعون  يزحف اليها مثل الموت  لنفاجأ بحلم الشاعر يتهاوى:
اسوأ الانباء ما يقال 
ان "بينارس" اصابها الوباء.. 
 في مدن الطاعون نعيش مع ساسة يحولون الحق إلى ضلالة والحياة إلى جحيم يكتوي بنارها معظم العراقيين، كم مثير للاشمئزاز إن الساسة الذين كانوا يطالبون بالحرية نراهم اليوم يمارسون الوحشية والاستبداد التي مارسها صدام وأبناؤه ومقربوه من قبل، في مدن الطاعون تغيب العدالة وتصبح الديمقراطية مجرد واجهة لسرقة احلام الناس ومستقبلهم، لتتحول إلى شعارات وخطب يلقيها علينا صباح كل يوم مجموعة من الانتهازيين واللصوص والمزورين، ديمقراطية  شعارها التفاهة والسفاهة والبلادة والشراهة، ومضمونها إقصاء الكفاءات والخبرات واحتضان أصحاب الصوت العالي والصاخب؟
في نهاية الرواية يعلمنا بطلها ريوكس أن النضال ضد الطاعون مضن مثل صعود الجبل: "في ذلك الوقت طاف عدد من الفلاسفة السذج بلدتنا معلنين انه ما من شيء يمكن عمله حيال الطاعون ولابد ان نذعن له.. فيما تعلمنا الحياة ان هناك وسيلة واحدة للخلاص،  فقط هي محاربة الوباء".
واعتقد هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العراق من  وباء أسمه المنطقة الخضراء .
 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البرلمان يتوعد بـ10 استجوابات: ستمضي دون عراقيل

انتحاريون على أبواب حلب.. ماذا يجري في سوريا؟

الدفاع التركية تقتل 13 "عمالياً" شمالي العراق

مجلس ديالى يفجر مفاجأة: ثلاثة اضعاف سرقة القرن بالمحافظة "لم يُعلن عنه"

الشرطة العراقي يغادر إلى الدوحة لملاقاة بيرسبوليس الإيراني في دوري أبطال آسيا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

 علي حسين اظل أكرر واعيد إن أفدح الخسائر التي تعرض لها العراق ان الكثير من مسؤوليه وساسته غابت عنهم الروح الوطنية ، واصبحت كلمة النزاهة مجرد مفردة تلوكها الالسن ويسخر منها اصحاب الشأن...
علي حسين

كلاكيت: السينما عندما توثق تفاصيل المدينة

 علاء المفرجي بغداد والسينما.. المدينة والسينما.. كيف لنا ان نختار شكل العلاقة او ما الذي يمكن ان نكتشف من هذه العلاقة؟ وهل يمكن لبغداد كمدينة ان تنفرد مع السينما فتختلف عن علاقة المدن...
علاء المفرجي

الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!

رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
رشيد الخيون

قَدْحُ زناد العقل

ابراهيم البليهي حَدَثٌ واحد في حياة الفرد قد يُغَيِّر اتجاهه إذا كان يملك القابلية فيخرج من التحديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع وعلى سبيل المثال فإن هوارد قاردنر في السبعينات درَس علم النفس...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram