TOP

جريدة المدى > عام > المـــسـرح وسـتـــــراتيجية الــتــلــــقّي

المـــسـرح وسـتـــــراتيجية الــتــلــــقّي

نشر في: 6 إبريل, 2020: 06:15 م

مروان ياسين الدليمي

لاخلاف على أن جهود الباحثين والدارسين قد تأخرت فترة طويلة في تناول مسألة بغاية الأهمية في التجربة المسرحية والمتعلقة بتلقي العرض المسرحي،

وما يدعو الى التساؤل فعلاً حول أسباب غياب هذا الجهد رغم ماحصل من تطور كبير خاصة خلال القرن العشرين في إطار الدراسات النظرية والنقدية ومانتج عن ذلك من مناهج ومدارس مختلفة تناولت شتى حقول النتاج الإبداعي الأدبي إلا أن موضوعة تلقي العرض المسرحي لم تلق من الاهتمام ماتستحقه،مع أن الظاهرة المسرحية كانت قد اكتملت عناصرها الرئيسة عند الإغريق قبل أكثر 500 عام (ق.م).

الكاتب عواد علي،باعتباره ناقداً مسرحياً قبل أن يكون روائياً،حاول أن يتقصى العلاقة التي تجمع العرض المسرحي بالمتلقي،عبر كتابه الذي صدر هذا العام والموسوم"المسرح وستراتيجية التلقي"الصادر عن دار نشر نوربوبلشنك،والذي توزع على ثلاثة فصول وبالعناوين الآتية:الفصل الأول:الإرسال والتلقي.

الفصل الثاني:الإرسال والتلقي–المقاربة التأويلية والسيميائية.الفصل الثالث:الانتاج والتلقي – المقاربة السوسيولوجية . 

قبل أن يدخل في تفاصيل مشغله البحثي أشارالمؤلف في كلمة التمهيد بان التوجه الجاد إلى تقديم نظريات متطورة حول جمالية التلقي في المسرح لم يبرز إلاّ في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي،حينما انتقلت بؤرة الاهتمام،بشكل لافت،إلى المتلقي،إنطلاقاً من أن وجوده بات حيوياً في سيرورة إنتاج العرض المسرحي وتأويله،مثلما هو حيوي وجود المؤلف والممثل والمخرج.ولأجل ذلك يستعرض عناوين مجموعة من الكتب والدراسات التي اهتمت بعملية التلقي،ويرى بأن جمالية التلقي في المسرح ما كان لها أن تحتل الموقع الذي باتت تحتله الآن في حقل النقد والأبحاث الأكاديمية حول المسرح،لولا الانقلاب الجذري الذي أحدثته نظرية التلقي في حقل النقد والدراسات الأدبية خاصة في ألمانيا .ثم يذكرمجموعة من الدوافع التي جعلت من المتلقي يحظى بهذه الأهمية. 

يعود بنا الفصل الأول من الكتاب الى الوراء،حيث أشكال الدراما الأولى،فيعرض لنا رؤية الناقد دافيد بين في كتابه الموسوم"الممثلون والجمهور"الذي يفسر حضور الأحاديث الجانبية على خشبة المسرح في الدراما اليونانية،باعتبارها نوعاً من العقد الرسمي المبرم بين المؤلف المسرحي والجمهور،إضافة إلى أن ظهور الدراما كجزء من الاحتفالات الدينية الأثينية كان بمثابة حلقة الوصل بينها وبين التجربة الدينية للمتلقي،بينما يرى الناقد بيتر والكوت،في كتابه"الدراما الإغريقية في سياقها المسرحي والاجتماعي" وجود الكورس الإغريقي يعكس غياب أي حاجز مادي يفصل المؤدي والجمهور،بذلك شكلت كلاً من خشبة المسرح والأوركسترا وقاعة المشاهدة وحد ةً واحد ةً.بينما تستنتج سوزان بينيت،أن المسرح اليوناني لم يكن منفصلاً عن مجموعة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتواجدة في أثينا آنذاك. 

ثم يتجه بنا الكتاب صعودا ناحية العصور الوسطى وماتلاها من فترات زمنية في اوربا ليخرج بنتيجة تشي بأن منزلة المتلقين لم تحافظ على مستواها،فجمهور مسرح العصور الوسطى،والقرن السادس عشر،لم يتمتع بالقوة ذاتها التي تمتّع بها جمهور المسرح اليوناني،ومع بداية تأسيس المسارح الخاصة في القرن السابع عشر بدأ الفصل بين عالم الخشبة المتخيل والجمهور.كما ظهرت مواضعات سلوكية غريبةً،فجمهور المسرح الإنجليزي أصبح أكثر سلبية وأكثر برجوازية. أما في الأربعين عاماً الأولى من القرن التاسع عشركان جمهور الطبقة العاملة يُحدِث ضوضاء وشغباً.ومما زاد من حدَّة هذا السلوك بعد ذلك استخدام كشافات الإضاءة الأرضية التي كانت بمثابة حاجز فعلي فَصَل الجمهور عن خشبة المسرح،فقوبلت بالكثير من التحدي من جانب تيارات مسرحية مختلفة،الأمر الذي أدى إلى إفراز متلقٍ متحرر . 

ويشير المؤلف الى أنه مثلما تغيرت طبيعة الجمهور فقد تغيرت المنزلة الثقافية للحدث المسرحي أيضاً،كما اعترفت معظم ردود الأفعال تجاه المسرح الطبيعي بأن الجمهور يمثل جانباً خلاقاً في التجربة المسرحية،وتبدّى هذا الاهتمام في الأفكار المجنونة لفيليبو مارينيتي" 1876 - 1944"فقد سعى إلى إثارة دهشة الجمهورومفاجأته من خلال استخدام مثيرات غريبة، مثل وضع مسحوق على مقاعد المتلقين بهدف إثارة المشاجرات بين الجمهور.وكان مارينيتي يسعى بذلك إلى ازاحة ما يسمى بالحائط الرابع الوهمي،وتلته محاولات أكثرأهميةً،منها ما قدمه المخرج الروسي مايرهولد،ثم بريخت الذي جعل التلقي عمليةً واعية وليس انفعالاً مجرداً.

إلى جانب ذلك استعرض الكتاب ماجاء من استنتاجات مهمة خرجت بها الابحاث المَسحية التي انجزها خلال النصف الثاني من القرن العشرين عدد من الباحثين ،ثم يقدم لنا موجزا حول نظريات التلقي،إذ ركز بعضها على الحاجة إلى تقديم نظرية حول "المتلقي"في المسرح،وبعضها الآخر اقترح قراءات متعددة المشارب تمتح من أطر مرجعية فلسفية،أو علمية،أو جمالية،ومنها من اعتمد أصحابها على معطيات التحليل النفسي، مثل آن اوبرسفيلد،ومنها من تبنى أسس جمالية كباتريس بافيس،ومنها من قارب العلاقة من منظور فينومينولوجي ظاهراتي مثل أندريه إيلبو،ومنها من درسها في ضوء علم الاجتماع النفسي كريتشارد شيشنر،ومنها من اعتمد على نتائج علم النفس المعرفي مثل ماركو دي مارينيز،ومنها من استند على أبحاث سوسيولوجية وسايكولوجية وسيمياء الفن،إضافة إلى مفاهيم لسانية،ونظرية التلقي كريشار دو مارسي. 

الفصل الثاني من الكتاب ينتقل بنا الى مرحلة متقدمة حيث يقدم ثلاثة اسماء كبيرة انصب جهدها التنظيري في ايجاد مقاربات تأويلية وسيميائية،وهم كل من:بياتريس بافيس،آن أوبرسفليد،كير إيلام.وإذا ما توقفنا عند قراءته لبياتريس بافيس فسنعرف بانه قد درس العلاقة الجدلية بين عمليتي الإرسال والتلقي،مؤكداًعلى أن الإرسال لن يكون فعالاً من دون الأخذ في الاعتبار دورالمتلقي،كما أن فعل التلقي لا يمكن استيعابه من دون الرجوع إلى عملية الإرسال،ويأخذ بافيس،على ما يسميها بالممارسات السيميائية المبكرة،التي اعتمدت على أطروحات الشكلانيين الروس،كما تجلت في نظرتها إلى العمل الفني بوصفه عملية إرسال مكتملةً ونهائيةً،لكن بافيس وحسب وجهة نظر عواد علي تجنى على سيمياء حلقة براغ حين يصفها بأنها غير قادرة على تفسير ديناميكية العلامات في المسرح،ثم يقدم عدد من الاثباتات لتأكيد هذا التجني . 

أما بخصوص آن اوبرسفيلد،فقد اعتمد المؤلف على قراءة ما طرحته من افكار في الفصلين الأخيرين من كتابها "مدرسة المتفرج "حول البحث في آلية عمل المتلقي في المسرح،والأدوار التي يقوم بها،وأنواع اللذة التي يحصل عليها من ممارسته لتلك الأدوار،فيكشف لنا في مقاربتها عن حضور واضح لاتخفيه لموجهات بريخت وبارت وفرويد عليها،أما في مايتعلق بتمهيدها لعمل ومكانة المتلقي فهي تقرر بأن هذه المكانة لا تتحقق لكل شخص بل لمن يؤدي عملاً ذهنياً أثناء المشاهدة،ويتمثل ذلك بتنسيق المتفرج لإحساسه،وتذكره،وأن الجهد الذهني الذي يبذله المتفرج،وهو يتلقى التجارب الإخراجية الحديثة أكبر بكثير مما يبذله مع التجارب التقليدية،لكونها تميل إلى التعقيد في بنائها الفني،وتتبعثر الأشياء فيها بطريقة شاذة،فيضطر إلى الاستعانة ببناء أنظمة صغيرة متماسكة،لها وحدة في المعنى،لا تشكل حواراً منظماً،بل كوكبات ذات معنى،ولا يستطيع المتفرج،في كثير من الحالات،أن يشكل،بوساطة المونتاج،تلك المجموعات ذات المعنى،بل يكتفي باللصق،وفي هذه الحال سيكون التنافر له معنى بالنسبة له. 

ثم يعاين ماجاء في الفصل الثالث من كتاب كير إيلام "سيمياء المسرح والدراما" ويجد بأن القراءة المتأنية لهذا الفصل الموسوم"الاتصال المسرحي"قد غطى في جزء كبير منه موضوعة الجمهور.إذ يرى إيلام أن في أي شكل حيوي للمسرح لا تكون رسائل الحضورإسهاماً أساسياً في تشكيل العرض وتلقيه فحسب،بل إن المتلقي،وبفضل رعايته الحقيقية للعرض،يأخذ المبادرة في دائرة الاتصال،ويكون قدومه واستعداده رسائل تمهيدية تستحث المؤدين على الفعل بكل مافي الكلمة من معنى.ولا تقتصر مبادرته في تفكيك الشفرات،واعادة تشفير النص.الأهم من ذلك أنه يكرس عمل الاتصال المسرحي عبر متتالية من الأفعال العملية والرمزية،والتي تبدأ بفعل شراء بطاقة الدخول.وفي رعايته للعرض يقوم المتلقي بتوجيه المؤدين كجماعة،فيعلمهم بأنه يتوجب عليهم أن يوفروا مقابل رعايته إنتاجاً أصلياً،أو إخراجاً من نوع ما.ويعقدون اتفاقاً يمنحون بموجبه الممثلين نسبةً مرتفعةً من النطق.ويملك المتلقين حق الانسحاب من الاتفاق لحظة يكتشفون أن الممثلين يسيؤون استعمال المبادرة الموكلة اليهم،وهذا يتفق مع راي أوبرسفيلد،التي تسميها ب"العقد الافتراضي "الموقع بين المرسِل والمستقبِل.ويحدد لهذا الاتصال،بوصفه عاملاً سيميائياً،ثلاثة تأثيرات رئيسة(الإثارة،التثبت،التوحد)ويرى إيلام أن التصورالأشمل لعمل الاتصال،هو أن يكون المتلقي ملماً بشفرة المرسِل لكي يصبح قادراً على فك شفرة الرسالة.

الفصل الثالث جاء بعنوان"الإنتاج والتلقي:المقاربة السوسيولوجية"وقد خصص لمناقشة سوزان بينيت التي تصف جمهور المسرح بانه ظاهرة ثقافيةً،وتقتصر قراءة عواد علي فقط على الفصل الثالث من كتابها الموسوم "جمهور المسرح: نظرية الإنتاج والتلقي"بعد ان وجد فيه ضالته،لأنه قد احتوى على تنظيراتها الخاصة إذ تقدم نموذجاً لتجربة الجمهور المسرحي،وهو نموذج يعتمد على إطارين: خارجي ويهتم بالمسرح بوصفه بناءً ثقافياً،وداخلي لانه يركز على الحدث المسرحي ذاته،وخاصة تجربة المتفرج مع العالم المتخيّل على خشبة المسرح .أيضاً يرصد الكتاب محاولة سوزان بينت ابراز العلاقة بين الثقافة والمسرح لأنها تفحص نظرة الغرب وافتتانه خاصة في القرن العشرين بالمسرح الخاص بالثقافات المغايرة للغرب وتشير في هذا السياق الى تطلع كل من برشت وانتونان آرتو الى الشرق بحثا عن نماذج تكون بديلة لسيادة الممارسة المسرحية الغربية .

واستكمالاً لمسار المقاربات النقدية نصل عند دنيس كالاندرا وهو يحاول تقديم بضعة اقتراحات لدراساتٍ مبدئيةً للتلقي،عندما يربط بين المسرح وفن المشاهدة والرؤية،توكيداً لفاعلية المتفرج في الظاهرة المسرحية،فيعود إلى الأصل اليوناني لكلمة مسرح المشتقة من فعل بمعنى يرى.ويرى أن السمة الجوهرية للفن المسرحي تكمن في الديناميكية التي تشمل المشاركين في أي حدث مسرحي،ويعتقد أن كل من كتبوا عن نظرية التلقي،يجمعهم اهتمام واحد هو الدورالذي يؤديه المتلقي في النسيج المعقد للفن،بوصفه علامةً تواصلية حسب ياكوبسن،وأن أكثر الاتجاهات محافظةً داخل نظرية التلقي تلك التي ترى المتلقي عنصراً هامشياً. 

ختام رحلة البحث تكون مع جوليان هلتون،في الفصل السادس من كتابه"نظرية العرض المسرحي"حيث يتناول العلاقة التي تربط المؤدي"المرسل"بالمتلقي "المستقبِل"،ويعمد بتقسيمها إلى نسقين:نسق جمالي،ونسق مالي،انطلاقاً من أن المتلقي حين يشتري التذكرة يتوقع قدراً من الترفيه،والمتعة الجمالية.ويبحث هلتون في النسق الجمالي من العلاقة بين المؤدي والمتلقي في نوعين من أنواع الإلقاء المسرحي:الأول هو الحديث المباشر إلى الجمهور،والثاني هو المونولوج،أو مناجاة النفس،ويرى هلتون أن مناجاة النفس تتميز بطبيعة مزدوجة،فهي تجمع بين سمة الحديث المباشر إلى الجمهورمن ناحية، وبين الاعتراف الصادق أمام النفس من ناحية إخرى،لكن صبغتها الاعترافية تشي بخصوصية تجعلنا نتشكك في حقنا في الاستماع إلى ما تكشفه من أسرار الشخصية.وتجسد مناجاة هاملت "أكون أو لا أكون " الطبيعة الإشكالية للمناجاة.ويضيف هلتون تقنية ثالثة تدفع المتلقي إلى تبني موقف احدى الشخصيات،واعتناق وجهة نظرها،وهي توجيه رؤيته إلى زاوية معينة،،ويضرب مثالاً على ذلك بتكريس ياغو جهده طوال مسرحية "عطيل" ليجعل الشخصيات الأخرى،وخاصة عطيل،ترى الأشياء على الصورة التي يريدها هو. 

*المسرح وستراتيجية التلقي:عواد علي 

دار نشر نوربوبلشنك – 2018 

عدد الصفحات 224

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق يعطل الدوام الأحد المقبل

إعادة 20 مليار دينار إلى الشركة العامة للخطوط الجوية العراقية

بعد سنوات عجاف… هور الشويجة يعود إلى الحياة من جديد

البرلمان يناقش نظام المحاولات وتدرج ذوي المهن الطبية في جدول أعمال جلسته غدًا

إيران تتعهد بتعزيز الشفافية النووية وترفض التفاوض تحت التهديد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram