TOP

جريدة المدى > عام > ماالأدب ؟

ماالأدب ؟

نشر في: 7 إبريل, 2020: 06:06 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

أقدّمُ أدناه، وفي أقسام متسلسلة لاحقة، ترجمة للفصل الأوّل من الكتاب المعنون (الأدب: لماذا يهمّنا؟ Literature : Why It Matters ?)

لمؤلفه البروفسور روبرت إيغلستون Robert Eaglestone . الكتاب منشور عام 2019، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة كتابي المترجم (الرواية المعاصرة: مقدمة وجيزة) المنشور عن دار المدى لكي يتحصّل على تعريف مسهب بالبروفسور روبرت إيغلستون وأعماله المنشورة.

المترجمة

القسم الثالث

تعتمد استجابتكَ الإبداعية - حالها في ذلك حال المحادثة الحوارية تماماً - على عقلك، وقلبك، ومشاعرك، تأريخك وآمالك المستقبلية؛ لكنك تتغيّرُ بالطبع مع الزمن، ومع تغيراتك البنيوية التي تطال كل المستويات يتغيّر كذلك نوع الأدب الذي بمقدروه أن يدفعك لإقامة محادثة حوارية معه. المقدّمة التي كتبتها دوريس ليسنغ Doris Lessing ، الحائزة على جائزة نوبل، لروايتها الرائعة المفكّرة الذهبية The Golden Notebook ( 1962 ) ، هي واحدٌ من أفضل التوصيفات التي كُتِبت بشأن الأدب والقراءة . تقول ليسنغ في مقدّمتها هذه : " تذكّرْ أنّ الكتاب الذي قد يُضجِرُك ويدفعك للملل - عندما تكون في عشرينيات أو ثلاثينيات عمرك - هو ذاته الذي سيفتحُ أمامك أبواباً مغلّقة عندما تبلغ أربعينيات أو خمسينيات عمرك، والعكس صحيحٌ كذلك. لاتقرأ أبداً كتاباً لم يُكتَبْ لمن هم في مثل عمرك. " ( 5 ) . إنّ أية علاقة لنا مع كتابٍ ما - باعتبارها محادثة حوارية حيّة - يصيبُها التغيّر مع الزمن : القراءة صيرورة متطوّرة . نحنُ نُبدي استجابة إزاء كتابٍ ما ، والكتابُ هو الآخر يستجيبُ لنا أيضاً ، وبهذه الشاكلة فإنّ قراءة الأدب وتعلّمهُ هي عملية تنطوي على نوعٍ من " جعلنا متناغمين أكثر من ذي قبلُ " ( مثل دوزنة الأوتار شيئاً فشيئاً لبلوغ النغمة المطلوبة ) ، وهنا تغدو هذه الحالة مماثلة لأن تشكّل آلة موسيقية قطعة من الموسيقى مثلما أنّ تلك القطعة الموسيقية تعملُ على ضبط الآلة الموسيقية . هذا يعني بالطبع - وبالضرورة الملزِمة كذلك - أنّ معرفة شيء عن الأدب يعني أمراً يختلف تماماً عن معرفة الحقائق بشأن - لنقُلْ مثلاً - عن التطوّر الزمني ( الكرونولوجي ) لكاتبٍ ما ( هذا ماسأناقشهُ باستفاضة في الفصل 3 من الكتاب ) ، أو محض قراءة بعض الملخّصات المبتسرة في موقع الويكيبيديا الألكتروني . إنّ معرفة عملٍ أدبي تعني التعامل معه كصيرورة متحرّكة على الرغم من أنّ المرء قد يشعرُ أحياناً أنّ عملاً أدبياً ما هو أقربُ لمجموعة من الإجابات المطلوبة لاجتياز اختبار قصير أو إمتحانٍ مطوّل . الأدب الحقيقي يعني التمشّي في مسار طبيعي على الأرض وليس تتبّع ذات المسار على الخارطة، ومعرفة التركيب الكيميائي للماء ليست تجربة مماثلة للشعور الذي يغمرُ المرء ويملك عليه حواسه عندما تصطادهُ عاصفةٌ استوائية مفاجئة .

نقولُ غالباً في سياق محادثة عادية : " عفواً . هل نستطيعُ الحديث عن هذا ...... ؟ . فقدت مساري في المتابعة . لماذا نناقش تلك ....... ؟ . عندما أقولُ هذا فإنّما عنيتُ ..... " . إنّ جزءاً أساسياً من أية محادثة ، وبخاصة عندما تكون طويلة ، هي قدرتها على التأمّل في ذاتها واجتراح التعليقات المستجدّة المناسبة للمداخلات الفجائية . الأدب يتأمّل في ذاته أيضاً . أحدُ أكثر الأمثلة شهرة في هذا الشأن يأتينا من رواية مِدِل مارتش Middlemarch التي كتبتها الروائية جورج إليوت George Eliot خلال السنتين ( 1871 - 2 ) . ( وصفتها الروائية فيرجينيا وولف Virginia Woolf - وهي محقّةٌ تماماً في وصفها هذا - بأنها " الكتابُ الأعظم الذي يُعدُّ - مع كلّ نواقصه - واحداً بين بضع روايات إنكليزية عظيمة كُتِبَت للبالغين ." ( 6 ) ) . يُخبِرُنا الساردُ في هذه الرواية عن مرآة " خُدِشت خدوشاً دقيقة متعدّدة في كلّ الاتجاهات " ؛ لكنك لو وضعتَ شمعةً قبالتها " ستبدو الخدوش مرتّبةً في سلسلة من الدوائر المتمركزة مع بعضها حول تلك الشمس الصغيرة " ( 7 ) . تنتجُ الشمعة " وهماً مغوياً من الترتيب المتمركز بطريقة فاتنة " - هذا ماتكتبه إليوت على لسان السارد في روايتها تلك ، ثم تضيف " إنّ مثل الشمعة هذا هو بمثابة ( حكاية رمزية مشبعة بالقيمة الأخلاقياتية ) بشأن الكيفية التي ينبغي بها التعامل مع الوقائع والناس الآخرين في العالم ؛ إذ نحنُ نراهم ( الوقائع والناس ) متوهجين ومُرتّبين في علاقتهم بنا عبر اهتماماتنا الذاتية المتموضعة حول أنوياتنا ، وهذه واحدةٌ فقط من الموضوعات الرئيسة ( الثيمات ) التي تحفل بها رواية مِدل مارتش : المحدوديات المفروضة على اهتمامات الشخصيات البشرية في الروايات ( وكذلك اهتماماتنا الشخصية نحن القرّاء ) ؛ لكنّما هذه المحدوديات ذاتها تمثّل أيضاً " حكاية رمزية " بشأن الكتاب ( أي الرواية ) ذاتها لأنها تخبِرُنا بالكيفية التي تريد الكاتبة بها لكتابها أن يُقرَأ ، وحيث تضيء حيوات وإحساسات الشخصيات المختلفة في هذه الرواية شبكة الوقائع المتعشّقة مع بعضها بطريقة مغرية. إنّ مايعدُّه بعضنا محض وقائع دنيوية عابرة قد يكون وقائع عظيمة الأهمية بالنسبة للآخرين منّا ، والأمر كلّه يعتمد على طبيعة الضوء المنبعث من الشمعة المضيئة في حياة كلّ فرد ، وكلّ الأعمال العظيمة في الأدب - بل كلّ الأعمال الأدبية كما يقول بعض النقّاد - لها هذان النوعان من الوقائع: عرضية طارئة وجوهرية خطيرة ، وهذه الأعمال هي التي ترشدك إلى الكيفية التي يرغب بها الكاتب لأعماله أن تُقرَأ وتُفهَم . هذا - ببساطة - ليس بالاكتشاف الحديث ؛ فثمة برهة مدهشة في الكتاب الثامن من ملحمة الأوديسة odyssey لهوميروس عندما يسمع أوديسيوس، بطل الملحمة الشعرية، وهو في إهاب لباس تنكّري ، شاعراً يغنّي له ولرفقائه ، وهو إذ يفعل هذا يغطّي رأسه بعباءة ثم يشرع في النحيب. نحن من جانبنا - شهود الملحمة - لانملك سوى أن نتفكّر في التأثير المفجع الذي تحدِثهُ القصيدة في روح البطل وفي أنفسنا، وفي الكيفية الفريدة التي يتفاعل بها هذا التأثير الفجائعي مع خبراتنا وتجاربنا في الحياة .

المُحادثات تحدثُ في زمنٍ ممتد - بمعنى أنها تبدأ ممّا قيل من قبلُ ( أي ماكتبه الكاتب في زمن سابق لتفاعلنا مع العمل ، المترجمة ) ، ثم تحصل المحادثات الآن ( في الزمن الحاضر ) ، وستشكّلُ مستقبلك فيما بعدُ . إنّ أمراً مماثلاً يحصل مع الأعمال الأدبية المكتنزة بالزمن time - full ( وليست أبدية خالدة مفارقة للزمن timeless كما يصفها أحياناً الشغوفون المكتنزون بالحماسة تجاه الأدب ) ، وربما يكون المعنى الأكثر دلالة في هذه الموضوعة هو - ببساطة - السياق الماضوي أو الفترة الماضوية لعمل أدبي ما . وصفتُ في مثال الكاتبة جورج إليوت أعلاه " مرآة " مخدوشة ؛ لكنّ ماكتبته إليوت في حكايتها الرمزية كان عن " دعامة زجاجية أو سطح واسع من الحديد المصقول الملمّع والمصنوع بطريقة تمكّنُ خادمة المنزل من مسحه بقطعة قماشية " في سياق الحديث عن تجربة علمية حول علم البصريات ، وتلك سردية غير مدرَكَة على وجه التقريب ( فمن ذا الذي يستخدمُ مرآة من الحديد المصقول الملمّع في يومنا هذا ؟ ) ، والسردية ذاتها متموضعة في شبكة مختلفة من العلاقات الاجتماعية ( من يوظّف خادمة منزل في يومنا هذا ؟ ) . نستطيع أن نلمح ، وبطريقة مشابهة ، في كلّ المسرحيات الشكسبيرية مخاوفه ( أي شكسبير ) من الحرب الأهلية التي كانت تُعدُّ الهاجس الأعظم في زمنه . النقّاد المولعون في السياق الأصلي للأعمال الأدبية غالباً مايوصفون بِـالنقّاد التأريخانيين Historicist . ( سأتعامل في الفصل التالي مع نظرائهم من النقّاد الموصوفين بالشكلانيين Formalist ) .

يحصل تجذّر الأدب في ماضيه أيضاً عبر فكرة التأثير الأدبي Literary Influence : يتتبّع الكُتّاب في العادة " شجرة عائلية " من الأعمال الأدبية التي أثّرت فيهم وهم منغمسون في تعديل وصياغة قصصهم ، وموضوعاتهم ، ولغتهم ، وأشكال تناولهم للأجناس الأدبية وكلّ شيء آخر يختارونه في حرفتهم الأدبية ( لكن يتوجّبُ الانتباه إلى حقيقة أنّ الكُتّاب لايصرّحون بالحقيقة - في العادة - بشأن هؤلاء الذين أثّروا فيهم التأثير الأعظم ! ) . يتّخذ جيمس جويس James Joyce في روايته يوليسيس Ulysses ( 1922 ) مثال أوديسيوس البطل في قصة الملحمة الهوميروسية ويجعله يستحيلُ مثالاً إيرلندياً معاصراً ؛ وهو إذ يفعل هذا فإنما يغيّرُ نمط تفكيرنا بشأن مايكونه البطل وماتكونه الملحمة معاً . إنّ هذه " الشجرة العائلية " من التأثير الأدبي تستمدّ تجذّرها الماضوي أيضاً عبر النوع الأدبي Genre : النوع يعني النمط فحسب ( حكايات الانتقام المأساوية ، قصائد الحب ، قصص التحرّيات البوليسية، وهو في الغالب يستجيبُ أو يمثّل إجابة للأسلاف السابقة من الأنواع الأدبية ، وهذه الاستجابة هي مايجعلُ الاستعارة المجازية في الأدب - باعتبارها محادثة حوارية - واضحة على نحوٍ شديد الخصوصية . لنأخذ مثلاً في النوع الأدبي الخاص برواية التحرّيات البوليسية : شارلوك هولمز ، بطل روايات ( آرثر كونان دويل ) ، شخصية طويلة ، دينامية ، على شيء من النحافة ، قوية، ذكورية السمات ؛ أما شخصية السيدة ماربل بطلة روايات ( أغاثا كريستي ) فهي - وكإستجابة مباشرة لشخصية شارلوك هولمز في الجيل اللاحق - فهي شخصية وديعة تتمظهر في صورةٍ تبدو معها إمرأة كبيرة السن تضمحلّ في الخلفية الروائية ( بصورة قصدية ) ، وهي بهذه الشاكلة تمثّلُ استجابة معاكسة ( بل وربما حتى توبيخاً ) للشخصية الروائية التي يمثّلُها هولمز . إبتدع الكاتب الأمريكي أوغست ديرلث August Derleth ، وعلى العكس من الأمثلة السابقة ، شخصية ( سولار بونز ) التي تبدو مطابقة لشخصية هولمز بدقة كبيرة ( يقيمُ بونز في 7b Praed St بدلاً من 221b Baker St. ، وصديقه هو الدكتور باركر وليس الدكتور واتسون ، وشقيقه هو بانكروفت وليس مايكروفت ) وهذا أمرٌ جميل في ذاته ( لاينبغي أن ننسى حقيقة أنّ الأدب يمكن أن يتناول أيّ شيء وكلّ شيء ) ؛ لكن هل ترغب في سياق محادثة حوارية أن تسمع الجملة ذاتها ( والمفردات والسياقات والأفكار ذاتها ) مرة تلو أخرى ؟ يحصلُ أحياناً أن تستطيل فكرة " الشجرة العائلية " هذه وتمتدّ لكي تغطّي تقليداً جغرافياً أو فكرة قومية : نحنُ نتحدّثُ دوماً عن أدب إنكليزي ، أو أدب كيني ، أو أدب ياباني؛ لكن عندما تمضي المحادثة الحوارية مرة بعد أخرى لكي تتناول وقائع مطروقة في أزمان وأماكن متباينة فحينها لايعود الأدب موضوعة منتمية لمحدّداتٍ قومية ضيّقة أو زمانٍ محلي محدود ؛ بل يستحيلُ موضوعة " عصية على التنميط القياسي في المكان والزمان " ( 8 ) ، ويمكنُ حينها للمحادثة الحوارية التي يمثلها الأدب أن تمضي إلى حيث يوجد هؤلاء الذين يبدون قادرين - وراغبين أيضاً - في إطلاق الأدب إلى الأعالي غير المسبوقة بدلاً من حصره في إطار محدّداتٍ زمانية أو مكانية أو قومية ضيّقة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق يعطل الدوام الأحد المقبل

إعادة 20 مليار دينار إلى الشركة العامة للخطوط الجوية العراقية

بعد سنوات عجاف… هور الشويجة يعود إلى الحياة من جديد

البرلمان يناقش نظام المحاولات وتدرج ذوي المهن الطبية في جدول أعمال جلسته غدًا

إيران تتعهد بتعزيز الشفافية النووية وترفض التفاوض تحت التهديد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram