كأس لانقراض ساعي البريد أنموذجا
علي لفتة سعيد
حين تقف أمام نصوص شعرية لشاعر يفهم اللعبة الشعرية بما فيها من شعر وشاعرية وتدوين وتأويل وقصد ومعنى وهدف ولغة
فإن العلاقة المتجذّرة بين المعرفة والنصّ الشعري ستكون محمولةً على عملية البحث عن تلقّي الجمال بطريقة الشعر أكثر منه بطريقة التعاطف مع الشاعر ذاته، لأن الأمر سيخلو من التقاط تلك الجماليات من بيدر الشعر الخالي من حبّاتٍ متساقطةٍ هنا وهناك..
إن هذا الأمر ينطبق على الشاعر أجود مجبل المجبول بالشعر ليس باعتباره شعرًا ينظّم خاصيته وأنه يكتب القصيدة العمودية التي أراد جعلها نصًّا شعريًا على غير عادة التدوين أو التنظيم للقصيدة العمودية في صدرها وعجزها، وبالتالي استلهام واتخاذ بحور الشعر المتعددة هدفًا للموسيقى، بل أنه يترنّم في التقوّل الشعري ليجعل من قصيدته نصًّا يقول ما يريد عبر ثلاثة محمولات مهمة:
المحمول الأول: هو أن النصّ ليس تدوينًا والبحث عن القافية والدلالة الموسيقية، بل هو نصّ حياتي يمكن الممازجة به ما بين الجنس التدويني للشعر بين العمودي والتفعيلة والنثر، سواء كان ذلك عبر الشكل الخارجي للنص أو عبر الموسيقى التي يمكن للمتلقّي أن يختار كيفية القراءة ومن ثم التلقّي.
المحمول الثاني: هو أن النص الشعري لديه يحمل الكم الكبير من اللغة المتصارعة في فعلها الدرامي المرتبط من العنوان حتى آخر كلمةٍ وليس عملية تدوين شطر البيت الشعري ومن ثم الملاحقة واختيار أي بيتٍ وتقديمه أو تأخيره، فهو يبحث عن وحدة النصّ وهو ما معمول به في الجنسين الآخرين التفعيلة وقصيدة النثر.
المحمول الثالث: هو أن النصّ الشعري لديه لا يرتكز الى مسلّمات عمودية تلك التي تبحث عن الخاصية المنصّاتية ( العمود الذي يقرأ على منصة شعرية ) بل أن النص كلّه هو عبارة عن منصّة هاتفة بالمعاني والدلالات وحتى الانزياحات اللغوية التي تقود المفردة الى إشعال كيانها الذي هو اشتعال لا يتحوّل الى جمرٍ ومن ثم الى رماد، بل يبقى مشتعلًا لاستكمال أدوات التلقّي.
إن أجود مجبل هو الشاعر الذي ولد في زمانٍ غير زمانه.. هكذا قلت عنه في أمسية في سوق الشيوخ.. فهو بإمكانه لو ولد في زمن الجواهري مثلا لجادله وحتى تفوّق عليه لأن القصيدة الجواهرية وهنا الأمر ليس تعاطفًا مع أجود وليس بالضدّ من الجواهري، بل لأن أجود يجدّد في وحدات التفعيلة البحور الشعرية ولا يتغنّى بمفرداته كما الجواهري أو حتى غيره وإن كانوا على قلّتهم في ذاك الزمن وليس بمثل هذا الزمن الذي انوجد فيها أجود وسط المئات من الشعراء العرب لكنه تميّز رغم عدم وجود المنصات التي كانت متوفّرة لسابقيه.
إن المثال الذي يمكن أن نطلقه على هذه المقدرة الشعرية هي في مجموعته الشعرية التي لا أقول عنها ديوانًا حتى لا أحصرها في كونها شعرًا عموديًا، بل هي نصوصٌ استغلّت العمود لتكتب بروح قصيدة النثر.. هي مجموعته التي تحمل ( كأس لانقراض ساعي البريد ) وبعيدًا عن فلسفة العنوان الذي يشي بالكثير من التأويلات التي تبدأ باختفاء ساعي البريد ويعني اختفاء الرسائل الى اختفاء وصل الجمال والحب والحروف الى ضياع البلاد الذي يربط بين الناس وبين بعضهم، فإن بناء القصيدة في هذه المجموعة يختلف عن أية مجاميع شعرية أخرى في نصوصها العمودية، ليس من ناحية الشكل فقط، بل من ناحية التأسيس المعماري.. ويمكن تلخيص الأمر بعدّة نقاط. النقطة الأولى: إن استهلال النصوص لا يكون محورًا ابتدائيًا تبدأ به النصوص الشعرية ومن ثم التشعّب أو تشظّي الأبيات الشعرية الأخرى، بل هي ممازجة بين استهلال النصّ النثري والقصيدة العمودية الجديدة، التي انبنت على يد مجبل وبعض أقرانه.. وهذا الاستهلال هو الجزء المحرّك لما يأتي وليس جزءا جامعا كما في القصائد الأخرى:
( يحدث الان
أن سرب ندامى
بايعوا آخر الكؤوس إماما
حبرهم هائمٌ بِأنثى ستأتي
وسيرمون حولها الأياما) من قصيدة (يحدث الان)
( يوما
مررت على صوتي مرفرفة
وأنجم العمر ملقاة بلا ألق
ناديت:
مدي يديكِ الغيمتين الى معناي
واقترحي شيئا على الافق) من نص (باب وراء الصيف)
(قالت لي الارض:
يا بن الطين يا وليد،
ألا تعود؟
ألم ينضب بك البوح؟) من قصيدة (السوادي ناجيا بكبائره)
النقطة الثانية: إن القصيدة تنطلق من بعدها التفكيري والفلسفي ولا تبحث عن الهجاء أو حتى التذمّر أو جلد الذات في النصّ النثري، بل هي محاورة فلسفية قوامها تفجير المعنى ليكون المحتوى هو مستوى تحليلي فلسفي مانح للدهشة، وهو غاية الشعر حين يبقى المتلقّي مندهشًا من اللغة ذاتها ومن المقدرة الشعرية والخاصية التدوينية، وكذلك القدرة على ربط الفعاليات النصّية مع بعضها، وهو ما يجعل حاصل جمع التلقّي هو الحصول على كميةٍ كبيرةٍ من التأويلات والفعّاليات الازاحية، ما بين اللغة كفعل والدهشة كنتيجة:
(هو فرصة للابجدية
واشتقاق للفصول
وموعد متواصل
وهو انتشار العشب في اللغة القليلة
حين يفجعها الغد المتضائل
أعرفت عبد الله، من هذا النبي؟
وكيف جاد به الزمان الباخل) من نص (هدايا النبي الاخير)
النقطة الثالثة: إن النصوص الشعرية لا تعتمد فقط على محاولة العمود بطريقة النثر بل محاولة جعل النثر بموسيقى العمود ولهذا يكون اللجوء الى الشكل الخارجي على أنه شكلٌ نصيٌّ ومترابط الفعاليات:
(هشيمك لا تدري به الريح
فاصطحب نعاس نديم
لم ينم منذ موته
وخذ شبهات الماء
خذ كل ما على الرفوف من الاختام
يكفيك أن ما بقلبك من خمر الحدوس) من نص للأشجار فكاهاتها.
إن البنية الكتابية للشاعر أجود مجبل لا تستقيم مع رؤية النصّ العمودي كشكلٍ تدويني، ولا تغوص في النصّ النثري كنصٍّ شعري، بل هو يجترح طريقته الخاصة التي تبدأ من العنوان ومن ثم الاستهلال المختلف تماما عن أي استهلال في النصوص الشعرية العمودية وامتلاكه لوحدة الموضوع التي تعد الجسد الكامل للفكرة، ومن ثم الخاتمة التأويلية التي تختلف هي الأخرى عن كلّ النهايات المتعارف عليها، ليس من ناحية المنطق التأويلي.. وبهذا فإن نصوص مجبل فيها بصمةٌ خاصة وتوقيعٌ إبداعي يمازج فيه العديد من القدرات الشعرية المنبّهة على الإبداع الظاهر والمختفي في النص.. ويمكن تلخيص التجربة الشعرية بعدة نقاط:
1 - إن استهلال النص لا يبدأ بمعاني تمهيدية، بل الدخول المباشر، ولذا فإن أغلب الاستهلالات هي لحظات سردية شعرية.
2 - إن مفرداته لا تشي بتقعّرات النصّ العمودي الباحث عن القافية، بل أن أصعب القوافي تكون ممهّدة في نصوصه، وكأنها تأتي طوعًا للفكرة ولا يبحث عنها الشاعر.
3 - إنه يهتم بوحدة الموضوع كفكرة تدوين.
4 - إنه يبحث عن جمالية المفردة وغنائيتها العالية.
5 - إنه يسند مهمة التأويل ليس لبيتٍ أو شطرٍ شعري، بل الى النصّ الكلّي.
6 - إنه يهتم بالشكل ليمازج بين الظاهر النثري والتراجع العمودي، ليبقى النصّ على قامة الموسيقى.
7 - إنه يجعل الغنائية فيه حالة مرتكزة في مفرداته، حتى لو كانت عن الحب والوطن والحرب والضياع والتيه، وهي في أغلب نصوصه، وكأنه يعصر لنصوصه خمرًا أو أن النصوص ذاتها تفرش له حانةً لكي يمنح لغة الشعر قوام حريتها.