TOP

جريدة المدى > عام > ثلاثية علي لفتة سعيد قراءة من منظور نفسي

ثلاثية علي لفتة سعيد قراءة من منظور نفسي

نشر في: 17 إبريل, 2020: 05:45 م

د.خالد محمد عبد الغني

الثلاثية عمل علي لفتة سعيد الأخصب في مشروعة الإبداعي الروائي ولذا نبدأ من الصورة الثالثة حيث تتناول مقطعا عن الحرب وتتحدث عن قاص انهى حياته يتيما ومن ثم مقاتلا في جبهات القتال خلال الحرب العراقية الإيرانية،

ومن ثم مقاتلا في حرب الخليج الأولى، وحين يتسرح من الجيش لا يجد عملا، فيبقى متنقلا من عمل إلى آخر، يعتمد على أبيه في الحياة، ولكنه يحب كتابة القصة، ويمضي وقته مع شاعر وناقد ولا علاقة له بالنساء لتربيته، يتعرف على امرأة جميلة تميل له وينجذب لها، وهنا تحدث المفارقات التي تبحث عنها الإجابة، من المستفيد من الحرب وما أثرها على المجتمع؟..القاص يحاول في العلاقة مع المرأة أن يكتب رواية فقد أعجبته قصة المرأة التي يقضي معها الليل بطوله لان زوجها غير موجود وهي زوجة عسكري.. الرواية كذلك تأخذ جانبا من أحداث التدخل الأمريكي في احتلال العراق وكيف كان الناس يترقبون إن كانت أمريكا تتدخل كما فعلت في حرب الخليج الأولى أم أنها ستكتفي بتوجيه ضربات، وأمام الدمج بين الحروب تبرز مأساة الناس من خلال العلاقة بين القاص وزوجة الرجل العسكري الذي يتضح له انه تسرح من الجيش مثله، ويعمل في عمل لإنتاج السمنت ليلا حتى الفجر. لكنه يصطدم بقوة المفاجأة أن الزوج العسكري وحين يرى له صورة ثالثة غير الصورتين المعلقتين اللتين تبرزان جماله وفتوته ومنصبه العسكري، انه رجل مصاب في الحرب. خلال الانسحاب العراقي من الكويت عام 1991 وأن الإصابة تقطع رجولته وهو ما يبقي الزوجة طوال السنوات العديدة مع زوج بلا ذكورة فتلجأ إلى القاص لتعويضها إلا انه ينتفض على روحه ويقول لها انا والحرب على زوجك فيهرب منها إلى العمل مشغلا لمولدة تنتج الكهرباء فوق سطح فندق يعمل ليل نهار حتى لا يذهب إليها .

الرواية يقع زمنها في يوم واحد تنتهي بإعلان خدمة الاحتياط لاستدعاء القاص من جديد لخوض الحرب حين جاءت الجيوش لإسقاط النظام في العراق عام 2003.

وهكذا أظهرت الرواية أديبا مأزوما عاش شبابه الغض في الحرب وخرج منها فاقدا لأسباب الحياة الطيبة وهنا كان عليه أن يواجه الحياة بفقرها المادي والمعنوي، وأول ما لفتنا هو الإهداء "إلى أبي علمني أن الوطن أن تعيش ثم مات" (ص 5) وهنا يكون الأب معادلا للوطن وحب الحياة والحقيقة الوحيدة التي نراها يوميا هي الموت، "كان أبي يوصيني ألا اقترب من المرأة لأنها وسيلة لهلاك النفس (ص 157). ولدى المؤلف أيضا فقدان مبكر للأم التي لا يعي صورتها، جعل من حضور الأب ضروريا للشعور بالأمان والطمأنينة، ومن جهة أخرى جاء حضور الأب لدى محسن كتقوية وحافز "للأنا الأعلى" كيما يساعده على الكف عن الإشباع الجنسي خارج حدود العرف والدين بإنهاء علاقته مع سلوى، وكذلك كان حضور الأب في الشخصية الساردة الأخرى إلى جانب محسن.

وتلفتنا دلالة الصورة الثالثة تلك التي قصدها محسن وهي "ترك الرجل ملامحه الجديدة، بين أصابعي، لذلك أردتك يا محسن أن تعين عاطفتي لتتماسك، نصف لوجه ضامر والنصف الآخر منتفخ.. أشكال غريبة في النصف الأول، وجه بعين واحدة مفتوحة، وعين مغلقة بل آثار عين التحم الجلد حولها من ثلاث جهات.. جلد العين والأنف والوجنة..(ص 130)، إلى رجل حارب عشر سنوات وخرج من الحرب منبوذا اجتماعيا وفاقدا لرجولته فآثر الابتعاد والعزلة ليترك لزوجته فرصة لاشعورية لكي تشبع رغباتها المكبوحة، وهنا تآمر اللاشعور على إتاحة الفرصة للإشباع الجنسي، فالزوج يهرب بعيدا في عمل ليلي وسلوى تتسكع في الأسواق لشراء حاجاتها ومحسن يجوب الشوارع والأسواق بحثا عن أي امرأة. 

وبهذا ظهر محسن ذلك الرجل النبيل الذي حارب سنوات عديدة تهزه صورة زميله في الحرب– الزوج– وقد أصابته لعنتها، فيفيق أناه الأعلى من غفوته ليرتد منتصرا على "الهو" فيقرر الابتعاد عن سلوى لإحساسه بأنه إنما يخون الزوج إلذي كان ضحية الحرب، وهو الأديب المعني بالأدب وهموم الوطن، لتصبح سلوى وقد عادت أيضا لقوة الإيمان تلتمس فيه الشفاء وقد قوى عندها الأنا الأعلى أيضا ولتنتظر في النهاية حلا لمشكلتها، وها هو الزوج وقد ارتضى منها التوبة على فعلها لإدراكه بدوره فيما أصابها وهنا كانت نتيجة الحرب مدمرة لدى كثير من الضحايا سواء على المستوى النفسي والمادي، ولدى الرجل والمرأة على السواء فكانت هذه الرواية زعقة عالية للتنديد بالحرب والموت معا.

الجزء الثاني مزامير المدينة:

في الرواية ثمة تماه بين ذات المؤلف والموضوع ويسعى "محسن" المعادل إلى متابعة أثر زوجة الجندي الجريح "سلوى" لمعرفة أين تركتها الحروب، الشخصية الرئيسة تعمل في هذه الرواية حفارا للقبور بعد أن كان في رواية "الصورة الثالثة"- يعمل مشغلا لمولدة كهربائية فوق سطح أحد الفنادق.. وهو الذي يراقب بعين الوعي فإن المهمة ستكون متوجة بالانتقالات العديدة بين المقبرة وما يأتيها وما يحصل فيها من أحداث، وما يحصل في المدينة من صراعات خفية سواء على مستوى الساكنين أو العلاقات الأسرية التي امتلكت الأطيان وامتهنت لعبة رجال الدين. مثلما تناقش التحول الدراماتيكي لبعض المثقفين من اتجاه فكري إلى آخر. 

والرواية تعد صراع الأمكنة وإماطة الأذى عن الواقع وإزالة الغبار عن المرايا لعل الصورة تتضح أكثر ولو صورة واحدة من بين الصور، واللغة في الرواية متساوقة مع المعنى، والمعنى يبحث عن تأويله، وما بين اللغة وطريقة الحكي تركت الرواية فسحتها للتأمل وهي تتحدث عن الضياع في الحب والمكوث معا .الحب الذي حاول الراوي اقتناصه في حضرة أبيه الذي يعلمه الحرف ليكون ثابتا وحين يموت لا يجد غير أن يخوض الحروب وما بعدها لا يجد عملا ثابتا حتى يستقر على عمل حفار قبور، فيكتشف هول العالم الذي يعيش فيه .الحرب في الجهة الأخرى التي لا تلسعه نارها في المرة الأخيرة بعد الاحتلال والقبور مأوى هذه الحروب فيحترق بشوائها ويخاف على أفكاره، ومن بين خضم القبور يكتشف طرق الهلاك في هذا العالم. لكنه وسط كل الركام يبحث عن الحب والحرب فيكونا معا معادلا موضوعيا لما ضاع من الحياة فيكون القبر/سلوى الحديث عن الغياب والضياع والتيه، ومواكب العزاءات والبكاءات والحزن المعتق والفقر الذي يعلن أمامه قصر طوله فتتحول قبر إلى لذة مشتهاة مثلما هو قبر للتحول إلى العالم الآخر. 

الجزء الثالث فضاء ضيق: 

ما زال سعيد مسكونا في أعماله الروائية بالأسطورة والمكون التراثي العميق للشخصية حتى وهو يناقش قضية العدالة من خلال بحث الأديب الذي تجاوز الأربعين "محسن" بطل روايته التراجيدي في الدراما الإغريقية يواجه دائما تحديات تدمره بواسطة القدر، ولقد نحا سعيد في هذه الرواية إلى شكل حوار مباشر بين السارد ومحسن، ولعل السارد هنا هو ذلك الجزء المستبصر من شخصية محسن ولذا كان الحدث المباشر معه طوال الرواية، ويفسر له الأحداث ويكشف له عن أخطائه وعيوبه والحلول التي يجب عليه أن يختارها وكذلك المسالك الواجب اتخاذها تجاه العديد من المواقف والمشكلات. 

يجتهد محسن في كتابة روايته الثالثة ويأتي للقاهرة لمناقشة روايتيه السابقتين ويلتقي عددا من النقاد والأدباء ويتذكر إعجابه بالقاهرة تحديدا في أحيائها الكبرى وميدان التحرير، وكيف اختار الشعب الثورة على النظام الحاكم وكيف أن ناقدين أو أكثر أعجبتهم روايتيه. ويتذكر محسن أنه لم يتزوج واكتفى بالحياة مع سلوى، مكتفيا بالإشباع الجنسي الذاتي، بل إنه وجد صعوبة في التوقف عنه.. وعندما نتعرف على مصير محسن وما آلت إليه شخصيته خلال عُصابه والتثبيت على مرحلة علاقته بسلوى يحدثه السارد.. فنحن أمام محسن وهو يعاني من المرض النفسي حتى أنه قرر فشله في إقامة إعلاء - اتخذ شكل البحث عن العدالة - لرغبته المكبوحة بعد إشباعها مع سلوى، فقد قرر أن يكون مقندسا – جُماع مدنس ومقدس - أي جامعا للشيء ونقيضه في آن، وتلك علامة أخرى على العُصاب نطلق عليها التناقض الوجداني وفي أبسط معانيه حب الشيء وبغضه أيضا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق يعطل الدوام الأحد المقبل

إعادة 20 مليار دينار إلى الشركة العامة للخطوط الجوية العراقية

بعد سنوات عجاف… هور الشويجة يعود إلى الحياة من جديد

البرلمان يناقش نظام المحاولات وتدرج ذوي المهن الطبية في جدول أعمال جلسته غدًا

إيران تتعهد بتعزيز الشفافية النووية وترفض التفاوض تحت التهديد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram