TOP

جريدة المدى > عام > عمارة كنيسة العائلة المقدسة في برشلونة: واقع، بمنزلة.. حلم!

عمارة كنيسة العائلة المقدسة في برشلونة: واقع، بمنزلة.. حلم!

نشر في: 19 إبريل, 2020: 05:37 م

د. خالد السلطاني - معمار وأكاديمي

* الى صديقي حسب الشيخ جعفر

تعد كنيسة "العائلة المقدسة" في برشلونة (المشهورة باسمها الاسباني "ساغرادا فاميليا" Sagrada Familia)،

ايقونة المدينة الكاتلونية الاشهر، هي التى وضع الحجر الاساس لها في 19 آذار من عام 1882، ولا تزال في طور التشييد لحين الوقت الحاضر، مضفية بهذا الحدث الفريد فرادة إضافية الى عمارتها الاستثنائية، التي ندين بتصميمها وظهورها الى معمارها الاسباني "انطوني غاودي" (1852 -1926) A. Gaudi . ولئن اضحت "ساغرادا" معلما بارزا في عمارة المدينة الواقعة في الشمال الشرقي بمملكة اسبانيا، فهي بقيت دوما تمثل المبنى الاشهر في منتج عمارة غاودي، والاضخم بناء والاعمق تمثيلا لتصوراته الفكرية واسلوبه التصميمي. وهي تعبر بلغتها المعمارية التى لا تضارع وبمقاربتها المهنية الخاصة، عن ذلك "النزوع" الذي تعيد الانسانية به، بين الفينة والآخرى، "حالتها" المتفردة، العصية على الاستنساخ والتقليد. ذلك لان المخيلة البشرية ظلت على امتداد سني التاريخ تجنح لافراز تمظهرات مشوبة بالتعقيد والتناقض ومترعة بالغموض وفرادة الاشكال كجزء من منظومة جدلية بين النظام واللانظام، العقلانية واللاعقلانية، القاعدة واستثناءها، والتي بها، بتلك المنظومة، يغتني المنتج الابداعي الانساني ويكتسب فرادته وتعدديته لينجو من تبعات الرتابة وايقاعها المتماثل بالملل. 

نحن اذاً، ازاء ممارسة متفردة غير عادية تتوق لان تنأى بنفسها عن السياق وعن الخطاب ايضاً. انها ممارسة تستدعي الاستثناء واللانظام واللاعقلاني من تلك الجدلية الثنائية. فما اجترحه المعمار الكاتالوني يقع ضمن ما عرف، نقدياً، باسلوب "الار نوفو" Art Nouveau، ذلك الاسلوب المعماري الابداعي المميز، الذي ظهر واختفي سريعاً، عند سني التقاء القرن التاسع عشر مع العشرين. لكنه قبل نكوصه واختفائه كان قد "اشعل" اوروبا، وقتذاك، بحساسية جديدة، اشتغل عليها معماريون عديدون: من برشلونة وحتى موسكو، ومن غلاسكو الى روما. لكنه مع هذا فقد اتسم بمميزات محددة وواضحة من بينها القطيعة الابستيمولوجية التامة مع الاساليب المعمارية السابقة، والولع الخاص في استخدام الخطوط المائلة والمناسيب المتباينة، مع الاستعمالات الواسعة للمواد الانشائية الجديدة وخصوصا الزجاج والخرسانة؛ فضلا على توق "الار نوفيين" نحو توظيف الفنون التشكيلية والقطع النحتية والموزائيك والزجاج الملون Stained Glass لتكون جزءا لا يتجزأ من مفردات معالجة الواجهات لديهم، بالتزامن مع استخدام الحروف الكتابية بتشكيلاتها المميزة المعروفة. 

ولد "انطوني غاودي" عام 1852 في أطراف مدينة "تاراغونا" من اعمال برشلونة ؛ وكان الابن الاخير من خمسة ابناء لعائلة تمتهن اعمال النحاس والنقش عليه. وانطوني، هو اول "غاودي" يغيّر مهنة "الصفاريين" التى استمرت العائلة في الاشتغال عليها لاربعة اجيال كاملة!. انتقل غاودي لاحقا الى برشلونة، وفيها اكمل دراسته المعمارية متخرجا من مدرسة العمارة فيها ومحرزا لقبه المهني في سنة 1878. وكمعمار وقع تحت تأثير امور عديدة، وغالباً ما وجد ايحاءات لاعماله في كتب تعود الى القرون الوسطى، وبهره الاسلوب الغوطي، كما اهتم كثيراً في دراسة الاشكال العضوية في الطبيعة. لكنه وكما هو معروف، اختط لنفسه درباً خاصا به مؤثراً القطيعة على مع ماهو سائد، ساعيا بعمله وراء ماهو غير مألوف ومهتماً في كل ما يبعث على الغرابة والشذوذ. ومع نزعات التفرد التى اتسم بها منتجه المعماري، فقد ظل غاودي وفيا ومخلصا لاطروحته، واهباً حياته لها، مكرسا جهده المهني في تحقيق ما كان يؤمن به ايمانا عميقا. وليس اشتغاله على رائعته "ساغرادا فاميليا" الذي استمر 43 سنة، إلا دليلا على ذلك الوهج الايماني والانتماء المهني. توفي غاودي في 10 حزيران ( يونيو) سنة 1926، بعد ان دهسه "ترامواي" مسرع في المدينة التى احبها، لكن احدًا من سكنتها لم يتعرف عليه، نظرا لملبسه المتواضع الذي رأى فيه المارة احد ابناء السبيل، وظنوه صعلوكا من صعاليك المدينة الكبيرة ومتشرديها، ولم يكترث به حتى سائقو التاكسي الذين رفضوا ايصاله الى المستشفى، لكنه على اية حال نقل الى مشفى الفقراء، ووجده صديقه فيه لاحقا، غير انه مالبث ان فارق الحياة بعد خمسة ايام من واقعة دهسه، وإثر وفاته اتشحت برشلونة كلها بالسواد معربة عن حزنها والمها العميقين على معمارها الفذ، ودفن بمراسيم مبجلة شارك فيها المسؤولون جنبا الى جنب جمهور حاشد من "البرشلونيين"؛ وتم دفنه في احد اقبية "ساغرادا" ذاتها، الكنيسة التى كرس حياته لتصميمها والاشراف على اعمال تنفيذها، تلك الاعمال التي ما انفكت مستمرة طيلة عقود عديدة من السنين حتى بعد وفاته، ومن المحتمل ان تكتمل، كما متوقع لها، في سنة 2026 اي بعد مرور قرن كامل على وفاة معمارها القدير!. 

تبدو حيثيات تكليف غاودي مشروع اتمام الكنيسة، بعد ان تم اقصاء معمارها الاول عن الاشراف، عصية على التصديق لجهة مفارقتها الواضحة. اذ هل كان السيد "خوان مارتوريل"، وهو رئيس مجلس ادارة الكنيسة في حينها وصاحب مقترح التكليف، يعي بان تصميم غاودي سيكون حقاً اقل كلفة من سابقه؟ فالمعمار الشاب المكلف، فضلا على انه كان وقتذاك قليل الخبرة، كان ايضا غير معروف مهنياً على نطاق واسع. لكنه ظل يوصف كما كان طالبا تارة بالجنون وتارة آخرى بالعبقرية . اترى تلك الصفة الملتبسة بين نقيضين هي التى اغرت "السنيور مارتوريل" بفكرة تكليفه بأعمال تصميم الكنيسة؟. في وقت كان المزاج العام مهيأ تمامًا لتغييرات جذرية في الذائقة الفنية، بل ويمكن القول، ان ذلك المزاج، المعبأ بنَـفَس التغيير والقطيعة، كان، وقتذاك، يتقصى عن تمثلات ابداعية لذلك الاحساس. واياً يكن الامر، فنحن ازاء مصادفة تاريخية نادرة؛ ستكون عواقبها شديدة التأثير على المعمار نفسه، وعلى معطى المنتج المعماري العالمي. وما سنعرفه لاحقا بخصوص التكليف، بان فكرته لم تكن خطأً مهنيا على الاطلاق، وانما كانت واقعة، وياللغرابة، صائبة جدا، لما انطوت عليه من مصداقية عالية قُـدر لها ان ترهص بالآتي وان تستشرفه عن بعد. 

يعكس المخطط العام لكاتدرائية "ساغرادا" شكل الصليب اللاتيني ذي الاطراف المتماثلة تقريباً. صمم غاودي هيئتي مدخليّ الممر العرضي للمبنى (جناح الكنيسة) بصيغ توحي الى موضوعات "آلام المسيح" في البوابة الشرقية، والى " ميلاده" في البوابة الغربية؛ في حين كرس موضوعة المدخل الرئيس الجنوبي، الى معاني "التسبيح" او "السعادة السماوية". كما صمم اربعة ابراج فوق كل مدخل من المداخل الثلاثة بعلو موحد بلغ ارتفاعه نحو 100 متر. ويشير مجموع تلك الابراج الى الرسل الاثني عشر. ثمة اربعة ابراج اخرى موقعة حول القبة المركزية، مكرسة الى المبشرين بالأناجيل الاربعة، بالاضافة الى برجين منذورين الى "مريم العذراء". ويبلغ ارتفاع هذه المجموعة من الابراج، وفقا لتصاميم غاودي، 125 مترا، واخيرا هناك برج رئيس هو الاعلى في الكاتدرائية مكرس الى "السيد المسيح" سيبلغ ارتفاعه نحو 170 مترا وفقا للتصميم. 

"ها هي أمامي - كتبت في دفتر ملاحظاتي، عندما شاهدت الـ "ساغرادا" لاول مرة- جليلة وشامخة، غير منتهية. وربما جزء من "شموخها" ان بناءها لايزال مستمراً. ليس ثمة وضوح في التكوين، وقد يكون.. لا لزوم له هنا. ثمة عناصر متنوعة ومختلفة تحصر فضاءً، لكنها في العديد من الحالات لا تحصره؛ بمعنى ليس هناك فراغ معماري... هناك كتل متنوعة وعناصر مزدحمة؛ وهناك مفهوم جديد للعمارة يرسيه هذا المعمار الكاتالوني. ومع ضجيج العناصر المستخدمة في الابواب التى اراها امامي، فان هيئاتها غير مملة ولا تبدو سمجة، انها مقبولة رغم غرابتها وكأنه يتعين ان تكون هكذا: مداخل بيوت الله، التي تمثل في بعض معانيها سطوة الخالق وجبروته.. وفردوسه ايضا!" . وفعلا فان الناظر الى "ساغرادا" يتملكه شعور خاص، بأن المرئي ليست عمارة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها ليست نحتاً مجرداً ايضا. انها جزء من مفهوم اعمق، من هذا وذاك. وربما تكمن مأثرة المعمار في هذا تحديداً؛ في اجتراحه لمفهوم ابداعي جديد؛ مفهوم ربما لم يعر احد من النقاد اهمية كافية له، وكان علينا ان ننتظر قرنا بأكمله لنرى مقاربات عديدة من عمارة "ما بعد الحداثة" تستقي طروحاتها التصميمية من النبع اياه الذي اجترحه يوما ما انطوني غاودي. 

يتعين عدم الاكتفاء برؤية المبنى من الخارج؛ ينبغي ان يعاين من الداخل ايضاً، لادراك قيمة العمارة المُجترحة. صحيح ان غاودي لا يكترث كثيراً في تجديد نوعية مخطط الكنيسة، (الذي بقي، بالمناسبة، العنصر التقليدي الوحيد في مجمل القرارات التصميمية للكاتدرائية). لكن هذا لا يعوق من رؤية التجديدات التصميمية التى اوجدها المعمار في طريقة "رفع" المخطط العادي حيزياً. مايجعل المتلقي لان يكون شاهداً على تمرين غاية في التشويق لثنائية الداخل والخارج: الهيكل الخارجي المتسم بفرادة تشكيلية، وبين العناصر الداخلية المفرطة في غرابة اشكالها والمتخمة بالتفاصيل المشوشة لوظائفها كعناصر انشائية فاعلة ينهض عليها ذلك الهيكل الخارجي. لا يترك المعمار اية سانحة لتذكيرنا بولعه في التفاصيل، التفاصيل ذات الاشكال الغريبة، غير المتوقعة ودائما المزدحمة؛ حتى يظن المتلقي بان "سقالات" Scaffolding البناء المنتشرة داخل فضاء الكنيسة، ماهي الا جزءًا من الفكرة التكوينية واحد قراراتها التصميمة. ثمة تيجان لاعمدة رخامية باشكال غير عادية، تتوزع منها "اغصان" اعمدة مائلة أخرى "يتكئ" عليها سقف الكنيسة الرخامي باشكاله المقعرة الملأى بالتفاصيل. ويضفي نور النوافذ الواسعة بزجاجها الملون سكينة وبهجة الى فضاء المبنى الغاص بـ "غابة" من الاعمدة الرشيقة التى "تذوب" كتلتها في اديم ذلك الفضاء نصف المعتم!. ثمة رسالة ذات دلالات رمزية، يتوق المعمار لإيصالها لنا: نحن مشاهدو و"نظارة" فضائه المميز. وهذه الرسالة المفعمة بالقلق الابداعي، تخفي شكاً بالحضور، كما تعلن عن عدم يقينية بالغياب: فحضور العناصر الانشائية الملموسة، يقابله نزوع لتهشيمها وتفتيتها توطئة الى تغييبها. في مثل تلك الاجواء الملتبسة والمشككة، تبدو كلمات "النفـّري" (ت 965 م) المتصوف الجوال التي تذكرتها، وانا في حضرة المكان، متسقة جدا مع مغزى وقيمة الفضاء المصمم. (اوقفني- يقول النفـري- وقال لي: الجهل حجاب الرؤية، والعلم حجاب الرؤية. أنا الظاهر: لا حجاب؛ وانا الباطن: لا كشوف!). 

.. واخيراَ؛ قد لا تكون جميع تصاميم غاودي (المنفذة معظمها في برشلونة)، بضمنها تصميمه "للساغرادا"، تحظى بتعاطف كبير واعجاب دائم من قبل متلقي عمارته. لكن هذا لا يمنع من الاشارة الى ان ما اضطلع به المعمار الكاتالوني من مهمة ما انفكت تعدّ، وفق رأي كثر من النقاد، من اكثر المهام اثارة وجسارة في تاريخ العمارة الاوروبية الحديثة. انها مهمة تقع ضمن مسار يؤكد صدقية الاطروحة القائلة ان الابداع، لا يمكنه ان يختزل في مقاربة معينة، او في اتجاه تصميمي واحد. انه، ولا بأس من الاشارة مرة آخرى، يتحرك بوسع، شاملا في حركته صنوفا عديدة من ابداعات انسانية حقيقية: العقلانية منها وغير العقلانية ايضاً، والاخيرة، لا تعني بالضرورة بانها مصنفة سلبا او هامشياً. ومنجز "انطوني غاودي" المعماري ولاسيما في "الساغرادا" خير دليل على ذلك.

... وتلك هي آية الابداع،

وتلك هي آية.. العمارة ايضاً.

* أستفدنا في كتابة هذه الحلقة من دراستنا المعنونة "نخلة غاودي"، المنشورة في كتابنا "فعل العمارة.. ونصها" (دار المدى، بيروت 2013)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram