TOP

جريدة المدى > عام > طائرٌ اسمه بندر

طائرٌ اسمه بندر

نشر في: 25 إبريل, 2020: 05:46 م

حيدر عبد المحسن

هم عبء يثقل كواهلنا

الأصدقاء الذين ما عادوا يعرفون كيف يموتون

جورج سيفيريس

لا تقلّ الصداقة غموضاً عن الحبّ، وفي الاثنين تحرّز سحريّ ضد العزلة، كما أن في الصداقة حكمة يفتقر إليها الحب. يعدّ بورخس الصداقة نوعاً من الإبداع الفني, وعرّف بيكاسو الصديق بأنه الشخص الذي تستطيع الرقاد معه وتأمن الوحش الذي فيه، فربما استيقظ هذا عند هزيع الليل الأخير وقام بالتهامك، بينما ذهب التكرلي إلى أبعد من كل هذا: "أن يكون لديك صديق يفتديك بنفسه فأنت ذو حظ عظيم!".

تلتقي بالشاعر بندر عبد الحميد، وتسأل نفسك: ما الذي يملأ روح هذا الطائر الذي عبر الصحراء، وجاء إلينا؟ 

طائرٍ قطعَ الصحراء

وجاءنا مغبرّاً

متساءل العينين

خائفاً...

تغسلُ جبينه شوارعُ المدينة

وتسكنه بيتاً

ثم تتركه ليتيه".

قرأت قصيدتي هذه في ضياء مصابيح حديقة جمعتني مع بندر عبد الحميد في مدينة أربيل في ليل صيفيّ عامر بالنجوم. أكثر ما يلفت النظر في بندر هدؤه الذي كان يشملني في الجلسة، كذلك صوته غير اللافت، الرتيب تقريباً، وحديثه المتأني كنت أخال أني أسمعه, ولا أسمعه، أما وجهه فكان حاضراً وقوياً، وجه طائر! 

لا تعرف بندر عبد الحميد على حقيقته إن لم تلتقِ به في بيته. قتام بالغ الرقة يجعل النهار في الصالة، حيث كنا نجلس، مظلماً. ستائر سماقية اللون ثخينة, وصوت المطرب محمد عبد المطلب, وهو يجعل العتمة في صالة البيت أكثر من ظل نهار:

ودّعْ هواك وانساه وانساني

عمر اللي فات ما حيرجع تاني

كان حلم وراح

انساه وارتاح...

تبدأ (السهرة) في شقة بندر عبد الحميد منذ الظهيرة، ولا تخالها تنتهي. القيثارات في الخارج توقفت، وهنالك شمعة على الطاولة ترتعش بدقة مع النغم, وتتقد بنوبات همّ ناعمة. ثم تجد نفسك تفلت من عالمك الذي تعيش فيه, وتدخل في سعادة الماضي القديم الحميمة, ويتلون عندها كل شيء في الوجود بالأسود والأبيض, حتى لُمّة صديقك الشاعر سامي أحمد (سامي تكوين), ولحيته, وسجائره التي لا تنتهي, وكأسه... 

تعود إلى بلدك, وتسافر في أنحاء العالم العديدة, وبعد سنين تعود إلى الشام، لترى الشاعر في استقبالك في شقته مثل الطائر الناحل شوقاً، بعينين مرهقتين تتألقان حباً وترحاباً، ووجهٍ كان يشيخ قبل أوانه, كما أن فيه حزن غريب.

كل شيء باقٍ في بيت بندر على حاله. الستائر, وصوت المغني, والعتمة التي تجعل الوجود

يتلون بالأسود والأبيض... 

كل شيء يتلون هنا بالأسود والأبيض, إلّا الشِعْر. 

فوق ممرات النسور

يمكن أن يحدث حبّ

من نظرة خاطفة

وأنا أغرف الثلج من الغيوم

وأراقب السفن البحرية

والصحون الطائرة

وليس معي سوى أوراق

وقميص مخطط

وأطول قبلة في التاريخ

وسط غرابة هذا الجو المشوب بالسحر كان الشاعر يقرأ قصيدته, وكانت تبدو على وجهه آثار العرق في خطوط متوازية على جبهته, جبهة الطائر. على الرغم من رائحة دخان سجائر الحاضرين كانت تصلني نكهة ثمار تسقط. مع كأس البيرة الثانية يزداد كل شيء نأياً، إلا صوت الشاعر, الذي صرتُ لا أرى من قامته النحيفة غير ظل طائر يعبر الصحراء: 

ما بيننا الآن إلا صحارى من الصمت

هل نحن جرحان أم زهرتان على طرف الرمل والنفط؟

قهوتنا العربية من بؤسنا القديم

عباءتنا نصفها علم, نصفها كفن, والقبائل تأكل أبناءها

والبلاد لنا _ وهي ليست

لنا...

مع الفطائر الشامية المشوية بالزعتر, أو بالسبانخ أو بالجبن تحتسي بيرتك, متمهلاً, ملتذاً بكل شيء في الوجود, حتى بالحنفيات القديمة في مطبخ البيت. ويجلس الشاعر متصدراً المائدة يحكي عن السينما, وعن الشعر، ويشرب الفودكا الممزوجة بعصير الرمان.

_ أريدك أن تعيش معنا دائما.

قال لي, وارتسمت ابتسامة على وجهه تجعدت لها زاويتا عينيه, وكان يبدو في جدّية قسّ تبشيريّ عندما استقرّت عيناه على وجهي:

_ أنت تأتي من بغداد ليومين وتجعلنا نعيش مثل عائلة, ثم تغادر. حرام عليك ما تقوم به يا رجل!

يشتد النقاش بيننا حول مواضيع تخصّ السينما والسياسة والأدب, وتنتبه إلى أن مضيّفك ساكت، لكنه كان محتشداً في صمته، ويتكلم أثناء صمته أكثر، وتبلغك منه آراؤه لا عن طريق الكلام، وإنما بواسطة الصمت العميق البليغ، الصمت الحارق، وعن طريق تعابير وجهه، وحركات يديه، وضحكته، وعينيه, عيني الطائر.

بعد قليل يهبط المساء.

كنت أنهيتَ زجاجتين من البيرة, وأكلت الشطائر، وامتلأت من الشعر، ومن نكهة الماضي القديم الحميم. حان وقت المغادرة، ولا يسمح لك مضيّفك, وقد علا صوته لأول مرة، وكنت ترى بقعة بنفسجية في عينه, وفي نافذة بعيدة في البيت هناك مرايا زائلة تعكس سنا الشمس الزائلة:

ـ لن أقبل منك أبداً هذا الأمر, فالغداء جاهز.

وكان عديم النفع أن تقدّم حججك للانصراف أمام إصرار الشاعر. كم في الطعام اللذيذ المطبوخ بيد من تحبّ من نعمة؟!

الشعراء يحبون المساء لأنه يغطي على حاجتهم الملحّة للحب. في ما يشبه الغروب الصيفي الدائم خرجنا نحن الثلاثة إلى الشارع، أنا وبندر عبد الحميد وسامي تكوين نتأمل الأشجار التي تستقبل المساء لأن الله رسمها في ساعة الغروب بالحبر الصيني, بالأسود والأبيض، وكنا نناديها بالأعين:

ثمة شجرة صغيرة في الصحراء

تشبه ظلك

ما زلت أبحث عن مذاق تلك الساعات التي قضيتها في ذلك اليوم الأسعد، في بيت الطائر الذي جاءنا قاطعاً الصحراء.

وأنت تخطُّ

شطآناً وبحوراً

موسيقى وأسماء

انتبه

انتبه أيها البريء

كل شيء يُمزق

وخلف ظهر يدك

تقف

وردة

بيت بندر عبد الحميد. سوف تنساه الأيام التي تنسى كل شيء. ماذا أفعل إن لم أجده؟

من القائل:

لا أحد يستطيع إيذاءنا سوى من نحبّ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. Anonymous

    وبالرغم من بحار تمتد بعد بحار، ومحيطات تغرق الأجساد والعيون أصيح على النوارس أن تبتلع ضوضاءها لأسمع صوت الشعر صوت حيدر

  2. Anonymous

    جميل جداً فعلاً.....لا احد يستطيع ايذاءها سوى من نحب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram