TOP

جريدة المدى > عام > محمد علي عباس، عازف الفيولّا الذي مات وفيه شيءٌ من باخ

محمد علي عباس، عازف الفيولّا الذي مات وفيه شيءٌ من باخ

نشر في: 25 إبريل, 2020: 05:50 م

نجم والي

تعرفت عليه قبل واحد وعشرين عاماً، أولاً في عمان، في شقته في الويبدة التي كان يتقاسمها مع صديق عمره محمد رشيد،

كانا في الحقيقة مكملين لبعضهما، محمد رشيد صانع كمنجات وفيولات ماهر، أما هو محمد علي عباس، فكان أحد أكثر اثنين مهارة وفناً في العزف على آلة الفيولّا على مر تاريخ العراق، من لا يعرف الاثنين: آرام بابوخيان ومحمد علي عباس، والطريف، إنني كلما سألت أحدهما من هو الأكثر مهارة، يحيلني إلى الآخر.

ولأن العراق بلد جاحد أول ما يحارب أبناءه الطيبين، وأول ما يقتل عباقرته، هاجر الاثنان، مثلما هاجر مبدعون آخرون، آرام انتهى إلى استراليا ومحمد علي ظل يطوف، لكنه كان دائماً يعود إلى عمان محطته الأولى بعد بغداد، في عمان أيضاً كان أحد الذين أسسوا مع أحد أشهر عازفي البيانو في تاريخ العراق، محمد عثمان صديق، الفرقة الملكية السمفونية الأردنية، بعدها أصر وليد غلمية عليه أن ينتقل إلى بيروت كي يأخذ موقعه كعازف فيولّا أول في الفرقة السمفونية اللبنانية.

لم أتعرف في حياتي على موسيقي مسكون في الألماني سيبستيان باخ مثله، كان يسميه المهندس المعماري، أما هو فليس غير مهندس معماري صغير في مكتب معمار باخ. 

أتذكر في عام 2001 وكنا قد انتقلنا للتو بعد زواجنا أنا وأخته، مبدعة أخرى صوتاً وحركة على خشبة المسرح، إنعام البطاط، أتذكر أنه زارنا للمرة الأولى في بيتنا في هامبورغ في الحي الراقي أبيندورف، كنا نخرج للعمل وكان هو يبقى في البيت لوحده، أتذكر كيف أن الجيران انذهلوا، قالوا لي، لم نعرف إنك مدمنٌ على عزف موسيقى باخ إلى هذه الدرجة، شكراً لك، ففهمت أن علاوي أو علوكي، كما كنت أناديه محبة، يظل يعزف لوحده طوال ساعات النهار، على الأقل ست ساعات. الأمر نفسه حدث حينما انتقلنا أنا وإنعام إلى برلين عام 2006، أتذكر كيف أن جاراً لنا كان مختصاً بتصليح وبيع الكمنجات، كانت شقته في الطابق الثالث في صحن البيت الخلفي، وكان الشاب مريضاً بالسكر، يقضي معظم الوقت في البيت، وكان زبائنه يأتون إليه لتصليح وشراء آلاتهم، لكنني رأيته يهبط من السلم ويأتي يضرب جرس البيت، ويقول لي، من هذا "الأسطة الكبير الذي يعزف عندك باخ؟"

ذلك هو محمد علي، علاوي أو علوكي، كان ربه ودينه سيباستيان باخ. ولأنه امتلك ميزة أخرى، نادراً ما امتلكها عازفو الآلات الموسيقية الكلاسيكية، وهي موهبة العزف على الكمان الشرقي، فكان كاظم الساهر يصر على أخذه معه في كونسيرتاته، وكان يعرض عليه أجراً مجزياً، وكان علاوي يوافق على مضض، في بعض الأحيان كان ينجح بالاعتذار من العزف مع كاظم، وفي مرّات أخرى يوافق، وكان يقول لي، لخاطر حسين (أخيه)، وحسين هو موهبة أخرى عازف جيلو رئيس في فرقة كاظم الساهر.

محمد علي عباس، علوكي، علاوي، كان على موهبة كبيرة في التوزيع الموسيقي أيضاً، أشرف على توزيع قرصين لأخته إنعام البطاط، "لا بالوما (الحمامة)" و"اسمع أغنيتي"، القرصان المدمجان وجدا صدى كبيراً في أوروبا، وأتذكر الدهشة التي سيطرت على وجوه الجميع في مؤتمر الاستشراق العالمي الأول في مدينة ماينتس الألمانية عام 2002 والذي حضره عدد كبير من علماء الاستشراق من مختلف بلدان العالم إضافة للطلاب جاءوا لحضور المؤتمر الذي عُقد تكريماً لأدوارد سعيد، أتذكر الدهشة التي انعقدت على وجوهم وهم يسمعون إنعام تصدح بصوتها الملائكي قصائد فصحى على خشبة المسرح بمصاحبة فرقة موسيقى الصالة تكونت من 11 عازفاً قادهم محمد علي عباس، وكان معه طبعاً محمد عثمان صديق على البيانو وصفاء عازفاً (ماهراً آخر) على البيركشين وعازفين من أوكراينا، مصر، اليابان، كوريا الجنوبية... في ذلك الحفل لم يتمالك أدوارد سعيد نفسه، لم يبق جالساً في مكانه، صعد إلى الخشبة ليحي إنعام البطاط وفرقتها ويشكرها على أحياء الأمسية.

بعدها ذهبنا في كونسيرتيات إلى عدة بلدان أوروبية، وكان محمد علي في كل ذلك حريضاً أن يأتي من عمان لكي يقود فرقة إنعام. كان وهو إنعام ثنائي محبة وإبداع، وكان من الصعب تخيل أحدهما من دون الآخر. وحتى عندما كان يأتي كل عام لألمانيا للمشاركة في العزف مع فرقة كلاسيكية شرقية تضم عازفين من عدة بلدان، وكانت تغني فيها مغنية الأوبرا اللبنانية نادية حويط، كان يطلب من إنعام أن تأتي إلى ميونيخ حيث مكان الكوسنيرت كل عام، لكي تظل إلى جانبه طوال أيام الاقامة.

وفي كل رحلاته كان يأتي لنا في هامبورغ ثم في برلين، وكنا نسهر، وكل مرة كنت أزداد حباً له، ليس أنا وحسب، كل الألمان، الأجانب الذين التقلوا بعلاوي أحبوه. السفير اللالماني في عمان مثلاً، كان يمنحه فيزا مفتوحة لألمانيا.

وحتى عندما حلت أيام مؤلمة علينا، حتى عندما فرقتنا المصائب والظروف، وذهب كل واحد منا إلى طريقه الخاص الذي اختاره، لم يقطع محمد علي عباس اتصالاته بي، كان دائم الاتصال بي، وفي حالات النشوة، كان يصرخ بي في التلفون، سأظل أحبك ، مهما فرقتنا الأيام، متى أراك؟

نعم حبيبي علاوي، علوكي، متى أراك؟ هل تعرف أنني ما أزال أراك أمامي؟ فناناً مبدعاً، عازفاً استثنائياً وإنساناً رائعاً، أنت لم ترحل بالنسبة لي، إنك فقط بعد أن انتهيت من المشاركة بتأسيس فرقتين سمفونتين، بعد أن ربيت جيلاً من العازفين على الموسيقى الكلاسيكية، تلميذاتك وتلاميذك الذي أعرف بعضهم، إنك بعد أن شعرت بأنك أتممت المهمة التي أخذتها على عاتقك على الأرض، قررت الانتقال إلى السماء، كي تؤسس فرقة سمفونية جديدة هناك، كم هم فرحون الملائكة بك، أسمع أصواتهم الجذلى، يحلقون كما الفراشات فرحين على أنغام موسيقاك، ألا تراهم؟ أنظر لهم، كيف أهملوا واجباتهم الإلهية الأخرى، وتفرغوا هذه المرة لأمر واحد وحسب: الاصغاء إليك وحسب، آلهة الموسيقى وهي تستعيد حياتها على يديك..... سيبويه قال وهو على فراش الموت "مت وفيّ شيء من حتى"، ليأخذها معه للجحيم، آه لو يسمع الملائكة الآن وهي تردد، "ها هو علاوي جاءنا ومعه الفيولّا الخاصة به، وها هو باخ ينهض من جديد كي يقول له أهلاً وسهلاً في مملكة الموسيقى! ألا ترى، حتى الله بدأ يغار منك، لقد أخذت ملائكته منه.

نم رغيداً في قبرك أيها الحبيب واحضن فيولاك.... إنها فقط أختك التي تفتقدك بقوة منذ أن سمعت بخبر وفاتك في عمان بالسكتة القلبية قبل أيام (21نيسان)، أختك إنعام، التي قلبها يتفطر عليك حزناً، أرجوك زرها في الحلم ولو لمرة واحدة، أعزف لها كما عزفت لها كل مرّة، أرجوك اطلب منها أن تهدأ... إنها تقتل نفسها عليك ... قل لها إن الحياة مازالت تنتظرها!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram