علاء المفرجي
انتهى المخرج العراقي الشاب أيمن العامري (بغداد، 1995) من تصوير فيلمه الوثائقي "بالأبيض والأسود"، الذي يتناول ﺣﻘﺒﺔ مهمّة من التاريخ الحديث للعراق، ﺗﻤّﺖ أرشفتها ﻣﻦ وجهة ﻧﻈﺮ مُصوّرين عراقيين ينتمون إلى أجيال مختلفة، وﺛّﻘﻮا اﻷﺣﺪاث ﻣﻦ زوايا ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣﺎً، من بداية ستينيات القرن العشرين، حتى يومنا هذا.
اﻟﻌﺎﻣﺮي ﻣُﺼﻮّر فوتوغرافي عمل في السينما اﻟﻮﺛﺎﺋﻘية والروائية. تخرّج من "ﻣﻌﻬﺪ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺠﻤيلة"، وأخرج أفلاماً وثائقية وروائية قصيرة. يُعدّ من المُصوّرين الفوتوغرافيين الشباب الذين لفتوا الأنظار إليهم مؤخّراً، وﺷﺎرك في معارض فنية دولية مختلفة. نالت أفلامه جوائز عدّة من "ﺗﺮابكيا" ﻓﻲ نيويورك (2013) و"ﻣﺎﻟﻤﻮ" ﻓﻲ اﻟﺴﻮيد(2014) و"ﺷﺎرﻟﻮت" ﻓﻲ نيويورك أيضاً (2015)، و"ﻓﺎن غوغ" ﻓﻲ ﻫﻮﻟﻨﺪا (2015). أعماله الفوتوغرافية ﺷﺎرﻛﺖ في "ﻣﻬﺮﺟﺎن آرت 16" ﻓﻲ ﻟﻨﺪن، وفي "اﻟﻤﻌﺮض اﻟﻌﺮاﻗﻲ ـ اﻟﺒﺮﺗﻐﺎﻟﻲ" عام 2013، وكان بعنوان "رﺳﺎﻟﺔ ﺣﺐّ ﻣﻦ اﻟﺒﺮﺗﻐﺎل إﻟﻰ اﻟﻌﺮاق"، وﻧﺸﺮت أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﻓية ﻓﻲ "بينالي البندقية".
عن فيلمه الأخير هذا، "بالأبيض والأسود"، يقول أيمن العامري، في حواره مع "العربي الجديد"، إنّه بسبب عمله في التصوير الفوتوغرافي، "تولّدت لديّ الرغبة في أن يكون موضوع الفيلم عن ذلك، فاخترت مُصوّرين فوتوغرافيين لهم دور كبير في تحديث هذا الفنّ وتطويره في العراق، لتوثيق سِيَرهم وأعمالهم الفوتوغرافية".
وعن تاريخ العراق في الفيلم، يقول المخرج الشاب: "التاريخ الحديث للعراق حاضر فيه، إذْ تعمّدت اختيار المُصوّرين وفقاً لهذا الأمر. ففضلاً عن دورهم المهم والقيَم الفنية العالية لصُوَرهم، ينتمون إلى مراحل تاريخية مهمة، وبالتالي فإنّ صُوَرهم تعكس طبيعة هذه المرحلة بأحداثها وأشخاصها وثقافتها"، مُضيفاً أنّه يوثّق "ليس فقط سِيَر هؤلاء الفوتوغرافيين وأعمالهم، بل أساهم في توثيق أحداثٍ تاريخية كثيرة".
عن مضمون العمل، يقول العامري: "الفيلم وﺛﺎﺋﻘﻲ، يرتكز على ﻋﺪﺳﺔ أربعة ﻣُﺼﻮّرين ﻓﻮﺗﻮﻏﺮاﻓيين من أﺟيال ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ: فؤاد شاكر، الذي يُعدّ مؤسّس الحداثة في الفوتوغراف العراقي، وثّق على ﻣﺪى ثلاثة ﻋﻘﻮد، بين ستينيات القرن المنصرم وﺑﺪاية اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺮاﻗية الإيراﻧية ﻓﻲ ثمانينياته. أشارت أعماله إلى مرحلة التحديث في السبعينيات، وما رافقها من استقرار ورُقِيّ، امتدّت إلى ﺑﺪاية اﻟﺜﻤﺎﻧينيات واندلاع تلك الحرب؛ فانصرف إلى ﻣﻮاﺿيع ﺳﻮﺳيوﻟﻮﺟية، تُعتبر اﻧﻌﻜﺎساً ﻟﻠﻀﺒﺎﺑية اﻟﺘﻲ أﺣﺎﻃﺖ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺮاﻗﻲ. هناك أيضاً هادي النجار، الذي وثّق الثمانينيات وأحداث الحرب الشرسة كمُقاتل فيها، وأرﺷﻒ ﻟﻠﺬاﻛﺮة اﻟﺠﻤﻌية ﻣُﺴﺘﻌيناً ﺑﺎﻟﺒﺴﺎﻃﺔ واﻟﻤﺤﻠية. ﻛﻤﺎ وﺛّﻖ ﻣﺠﺮيات أﺣﺪاث انتفاضة مارس/ آذار لعام 1991. ثم زياد تركي، الذي وثّق مرحلة ما بعد 2003 واحتلال بغداد، واﻟﻔﺘﺮات اﻟﻌﺼيبة اﻟﺘﻲ بدت له "مادة خام" ﻷرﺷﻔﺔ خراب اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ واﻟﺘﺪوير اﻻﻗﺘﺼﺎدي - اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺬي ﻟﻌﺒﺖ اﻟﺴياﺳﺔ دوراً مهمّاً فيه. أما الرابع فهو أنا، لانتمائي إلى الجيل المعاصر، الذي يعمل على إﻛﻤﺎل ﻣﺴيرة اﻟﺘﻮﺛيق، علماً أنّ التوثيق يُعاني الإهمال حالياً. جيل يُقارن في أعماله الفوتوغرافية ﺑين الماضي والحاضر، بإظهار اﻟﻤﻌﺎﻟﻢ المهمّة ﻓﻲ ﺑﻐﺪاد تحديداً واﻟﻌﺮاق ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم".
كيف عالجت الفكرة في فيلمك؟ نسأل العامري. يجيب: "استعنت بإحدى شخصيات الفيلم للتعليق. في البداية، هناك ﻃﻔﻞ ﺻﻐير ﻓﻲ أﺣﺪ الأزﻗﺔ القديمة في ﺑﻐﺪاد يحمل ﻛﺮات زﺟﺎﺟية، ﻧُﺸﺎﻫﺪ ما في داخلها، وﻛيف ﺗﻌﻜﺲ ﺻُﻮَراً ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ. هذا ﻣﺼﺤﻮبٌ ﺑﺼﻮت ﻓﺆاد ﺷﺎﻛﺮ. ثم هناك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺻُﻮَر ﻷﻃﻔﺎل ﻓﻲ ﻓﻮﺗﻮﻏﺮاف ﺷﺎﻛﺮ، الذي ﻧﻨﺘﻘﻞ إﻟيه ﻓﻲ لقاء يتحدّث فيه ﻋﻦ اﻟﻤﺸﺎﻛﻞ واﻟﻔﺮاغ اﻟﺪاﺧﻠﻲ واﻛﺘﻔﺎء اﻟﻨﺎس ﻓﻲ اﻟﻌﺮاق ﻣﻦ اﻟﺤياة وكرهها باكراً، وعن اﻛﺘﻔﺎئه ﻫﻮ نفسه ﻣﻨﻬﺎ".
يضيف العامري: "ﻧﺴﺘﻌﺮض ﺧﻼل هذا وﺑﻌﺪه ﺻُﻮَراً لأناسٍ مُعدمين وعمالٍ وحياة طبيعية ﻓﻲ الأزﻗّﺔ القديمة لبغداد، وأيضاً صُور ﺑﺎﺋﻌﻲ اﻟﺒﺴﻄﺎت ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ اﻟﻤيدان. يتكلّم ﻓﺆاد ﺷﺎﻛﺮ ﻋﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ الناس والمكان، فاﻟﻨﺎس يتحرّكون واﻟﻤﻜﺎن ﺛﺎﺑﺖ. ويرى اﻟﻨﺎس اﻟﻤﺘﻌﺒين بألف ﻋين وﻋين ﻣﻦ ﻋيون ﺧياﻟﻪ". يتابع العامري قوله إنّه "ﻓﻲ أﺣﺪ الأزقّة اﻟﺒﻐﺪاديةاﻟﻘﺪيمة، ﻧﺸﺎﻫﺪ اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻲ ﻫﺎدي اﻟﻨﺠﺎر جالساً ﻓﻲ ﻣﻘﻬﻰ ﻗﺪيم ﻣﻊ أناسٍ ﻣﻦ الطبقتين اﻟﻤﺘﻮﺳﻄﺔ واﻟﻔﻘيرة، وأحياناً يكون ﻟﻮﺣﺪه، واﻟﻨﺎس يمرّون ﺧﻠﻔﻪ. يتحدّث النجار ﻋﻦ ﺗﻮﺛيق ﻓﺆاد ﺷﺎﻛﺮ ﻟﻠﻨﺎس اﻟﻤُﻌﺪﻣين ﻓﻲ ﻓﺘﺮة ﺣﻜﻢ ﻧﻈﺎم اﻟﺒﻌﺚ، وﺗﺮﻛيزه ﻋﻠﻰ حياتهم اﻟﻌﺎﻣﺔ، وﻛيف أﺛّﺮ ﻋﻠيه ﺣﻜﻢ ﺻﺪام ﺣﺴين، ﻣﺎ أﺟﺒﺮه ﻋﻠﻰ المغادرة متوجّهاً إﻟﻰ الولايات المتحدة. ﺛﻢ ﻧﻨﺘﻘﻞ مع ﻓﺆاد ﺷﺎﻛﺮ إلى ولاية أوهايو الأميركية، وهو يتكلّم ﻋﻦ إﺣﺴﺎﺳﻪ ﺑﺄﻧّﻪ ﻣﻘﻄﻮع اﻟﺠﺬر. بعدها، ﻧﺸﺎﻫﺪ ﺻُﻮراً أﺧﺮى ﻟﻠﺸﻮارع الفقيرة والوﺟﻮه المتعبة للناس".
انتهى أيمن العامري إلى القول إنّ الفيلم يُكمل ﻣﻊ ﻓﺆاد شاكر متحدّثاً ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن، و"ﻣﻌﻮَل اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺬي يُغيرّ اﻟﻤﻌﺎﻟﻢ"، ويُضيف المخرج: "لم يبقَ شيءٌ من ﺑﻐﺪاد ﻏير الخراب. ﺗﺤﻮّﻟﺖ إﻟﻰ أﻧﻘﺎض، فاﻟﺤﺮوب ﻟﻢ تمنح ﻓﺮصاً ﻟيُعيد المرء اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻫﺬه اﻷﻣﺎﻛﻦ، وليُعيد ﺑﻨﺎءﻫﺎ وﺗﺮﻣيمها. هكذا مع شخصيات الفيلم أيضاً".