TOP

جريدة المدى > عام > غوغول بين روسيا وأوكرانيا

غوغول بين روسيا وأوكرانيا

نشر في: 2 مايو, 2020: 08:59 م

أ.د. ضياء نافع

لم يكن هذا الموضوع مطروحاً في مسيرة الأدب الروسي , ولم يتحدث أحد عنه بتاتاً آنذاك في الستينيات فصاعداً في الاتحاد السوفيتي أو خارجه ,

لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 , ظهرت وبرزت مواضيع جديدة وغريبة جداً ترتبط بمسيرة روسيا في مختلف المجالات , بما فيها طبعاً في تاريخ الأدب الروسي أيضاً , و لم تكن هذه المواضيع متوقعة أبداً , ومنها هذا الموضوع عن الكاتب الكبير غوغول , الذي نتوقف عنده في مقالتنا هذه , إذ يتناول الباحثون هذا الموضوع في السنوات الأخيرة , ويحاولوا أن يحددوا , هل أن غوغول كاتب روسي أم كاتب اوكراني , وكل يدلو بدلوه كما يقولون , وما أغرب هذا الكلام وهذا الخيار بالنسبة لمؤلف تلك النتاجات الأدبية الروسية العملاقة مثل قصص المعطف والأنف وغيرها , أو مسرحية المفتش ( التي يسمونها المفتش العام ) أو رواية الأرواح الميّتة ( التي يسمونها الأنفس الميتة) , تلك النتاجات التي يعرفها العالم بأكمله , وهي طبعا جزء لا يتجزأ من الأدب الروسي . 

ظهر غوغول كما هو معروف في العقد الثاني من القرن التاسع عشر في الامبراطورية الروسية , وساهم جنباً لجنب مع بوشكين وأدباء تلك الحقبة في مسيرة الأدب الروسي وتوسيعها وتعميقها , وأصبح – في الثُلث الأول من ذلك القرن - اسماً كبيراً ولامعاً وعالمياً في هذا الأدب , رغم أنه ( أي غوغول ) ولِد في أوكرانيا من أب وأمّ أوكرانيين , وإن لغته الأمّ كانت اللغة الاوكرانية طبعاً ( وهي لغة شقيقة للغة الروسية , إذ إنهما لغات سلافية , إلا أنها – مع ذلك - لغة أخرى ) , أي أن غوغول أوكراني أصيل , أو ( أبّاً عن جد ) كما نقول بلهجتنا العراقية الجميلة, ولكن أوكرانيا آنذاك كانت جزءاً لا يتجزأ من الامبراطورية الروسية ( واللغة الرسمية والسائدة في تلك الامبراطورية الواسعة هي اللغة الروسية ), ولم تكن أوكرانيا يوماً من الأيام دولة مستقلة عنها , وكانت تسمى بكلمة روسية واحدة هي - ( مالو راسّيا ) , أي روسيا الصغرى , وهي جزء حيوي جداً من تلك الامبراطورية بكل معنى الكلمة , بل إن الدولة الروسية نفسها , في بدايتها في القرن العاشر , تأسست باسم يرتبط بمدينة كييف الأوكرانية , إذ كانت تلك الدولة نفسها تسمى – ( كييفسكايا رووس ) , و لم تستقر الترجمة العربية لهذه التسمية لحد الآن , فالترجمة الحرفية لها هي – ( روسيا الكييفيّة ) , واجتهادات المترجمين العرب كثيرة حول تلك التسمية, وليس ذلك موضوعنا الآن. 

عندما وصلنا الى موسكو في بداية ستينيات القرن العشرين, وعشنا مع الطلبة الروس في الأقسام الداخلية للطلبة في الجامعات السوفيتية, لم نكن نميّز بين الروس والأوكرانيين بتاتاً, إذ كانوا جميعاً – بنين وبنات - بالنسبة لنا طلبة روس من حيث (الشكل والمضمون) إن صح التعبير , فكلهم يتكلمون بلغة واحدة هي الروسية, وأشكالهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وأعيادهم ...الخ واحدة تماماً , وحتى الاسماء نفسها , فذاك ايفان ( ودلعه فانيا ) وتلك نتاليا ( ودلعها نتاشا ), و لم نكن آنذاك نعرف - ونحن نعيش بينهم ونتقاسم معهم كل شيء - من هو الروسي منهم ومن هو الأوكراني . كنّا- طبعاً- نميّز بينهم القوقازيين مثلاً , من أذربيجانيين أو جورجيين أو أرمن , إذ كانت أشكالهم وتصرفاتهم تختلف عن الروس , والأسماء أيضا تختلف طبعاً , وبالتدريج , وبمرور الوقت فهمنا , أن لاريسا من أوكرانيا وساشا من روسيا , إلا أننا شعرنا أنهم شعب واحد تقريباً, وإنهم يتميزون , كما يتميّز ( المصلاوي ) عن ( البصراوي ) كما كنّا نتحدّث بيننا ونحن نضحك ونلهو . وقد تذكرت كل هذا وأنا اقرأ ما كتبه أحد الباحثين الروس عن غوغول , إذ كتب يقول , إن الكاتب الروسي العظيم غوغول , هو الابن العظيم للشعب الأوكراني , وإن هذا ( العبث ) كما أسماه , في أننا يجب أن نحدد الآن هل هو كاتب روسي أو أوكراني يجسّد ذلك الانفصال التراجيدي الأليم , الذي حدث بين الشعبين الروسي والأوكراني عام 1991 , وهو انفصال غير طبيعي بالمرّة , إذ لا يمكن أن يكون انفصال بين الكاتب غوغول والإنسان غوغول .

إن انفصال روسيا وأوكرانيا عن بعضهما بعد كل هذه المسيرة التاريخية المشتركة الطويلة منذ القرن العاشر ولحد الآن يعني , كما يقول باحث روسي آخر , إننا يجب أن نفصل بين بوشكين وغوغول , ويستمر بالقول , إن تمثال بوشكين وتمثال غوغول يقفان معا وجنبا الى جنب أبداً في النصب الذي أقامه القيصر الروسي الكساندر الثاني وافتتحه في مدينة نوفغورود بمناسبة الذكرى الألفية لتأسيس الدولة الروسية , و الذي يقف شامخاً منذ القرن التاسع عشر و لحد الآن , ويختتم هذا الباحث كلامه قائلاً , لا يمكن أن نهدم هذا النصب الخالد في تاريخ روسيا .

غوغول الأوكراني وإبداعه الروسي هو رمز للتقارب الروحي والتعايش الفكري المتبادل بين روسيا وأوكرانيا , رمز التلاحم بين الثقافتين الشقيقتين , رمز لظاهرة خالدة وارتباط عضوي لا ينفصم , ولا يمكن له أن ينفصم .... 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram