TOP

جريدة المدى > عام > كريلوف في المناهج المدرسية الروسية

كريلوف في المناهج المدرسية الروسية

نشر في: 10 مايو, 2020: 09:03 م

أ.د. ضياء نافع

لم اقابل شخصاً من روسيا لا يعرف حكايات كريلوف وأساطيره , أو لا يحبها , وكان هناك دائماً من يستشهد بمقاطع من تلك الحكايات والأساطير أثناء مسيرة الحياة بحلّوها ومرّها,

وكنت اعتقد , أن هذا التعاطف الشامل والتناغم مع تلك الحكايات جاء نتيجة لجمالياتها وسلاستها وعمقها وحكمتها , ولكني فهمت الآن , أن هذه الظاهرة الفكرية و الحيوية ليست فقط نتيجة لتلك الأسباب, وإنها ليست عفوية ليس إلا , وإنما جاءت أيضا نتيجة ( زراعة!) هذا الحب بين الناس والاعتناء به , إذ تبين , أن تلاميذ المدارس يدرسون هذه الحكايات والأساطير منذ الصف الثالث الابتدائي فصاعداً ( انطلاقاً من المبدأ التربوي العتيق والخالد - النقش في الحجر.. منذ الصغر!!! ), وتبين لي أيضاً , أن هذه العملية التربوية الفريدة ابتدأت في روسيا قبل( 150) سنة ولم تتوقف لحد الآن , بغض النظر عن كل الأحداث الهائلة التي حدثت في روسيا خلال هذه الفترة الطويلة من مسيرتها , والتي تحولت فيها الدولة الروسية من الامبراطورية الروسية التي يحكمها القيصر بشكل مطلق الى اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 والى روسيا الاتحادية في الوقت الحاضر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 .

لقد كتب كريلوف أكثر من (200) حكاية وأسطورة , ونشرها أثناء حياته بتسع طبعات , وهو رقم مدهش بالنسبة لذاك الزمان ( القرن التاسع عشر ) ولزماننا أيضاً ( ونحن في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين) , واختارت اللجنة التربوية لإعداد المناهج الدراسية في المدارس الروسية مجموعة صغيرة من تلك الحكايات , وأدخلتها ووزعتّها ضمن النصوص والكتب المنهجية للغة الروسية وآدابها , وأعطت الى المدرسين الصلاحية المطلقة لاختيار أربع حكايات منها فقط ضمن المناهج المقررة لتلك المراحل. نحاول في هذه المقالة التحدّث عن حكايتين فقط من تلك الحكايات التي تم اختيارها من قبل اللجنة التربوية لإعداد تلك المناهج .

الحكاية الاولى , التي تتصدر هذه القائمة هي (الغراب والثعلب) , للكاتب الفرنسي لافونتين , والتي ترجمها كريلوف عن الفرنسية بتصرف إبداعي كبير جداً وصاغها بشعر روسي رقيق وسلسل وعذب جداً, وهكذا (التصقت!) هذه الحكاية باسم كريلوف في الوعي الاجتماعي الروسي لدرجة , أن الإنسان الروسي البسيط ( ولحد الآن !) لا يمكن أن يتقبّل- بأي حال من الأحوال- أن كريلوف ليس مؤلفها وإنما مترجمها ليس إلا , وقد علّق أحد الطلبة العراقيين المرحين مرّة حول ذلك الموقف قائلاً ( إنها مسجّلة باسم كريلوف في الطابو الروسي !!!) . لقد كتبت عن أهمية تلك الحكاية في مقالتي بعنوان ( كريلوف ابن المقفع الروسي ), والتي يمكن الرجوع اليها طبعاً , وتحدّثت في تلك المقالة حتى حول الترجمة العربية عن الفرنسية كما جاءت عند لافونتين( والتي قام بها علاء شطنان التميمي, وهو أحد خريجي قسم اللغة الفرنسية في كليّة اللغات الحبيبة) . عندما يقرأ التلميذ الروسي هذه الحكاية الجميلة في منهجه المدرسي بلغة كريلوف الرقراقة يتفهّم رأسا ( بشكل غير مباشر) ماذا يعني المديح الزائف للثعلب وهو ينظر الى قطعة الجبن عند الغراب , أي أن الفكرة التربوية العميقة تصل الى ذهنه اليافع بشكل مقنع وسلس , وهكذا تبقى في عقله وقلبه ( كالنقش في الحجر ) .

الحكاية الثانية هي ( الذئب والحمل ) , وهذه الحكاية ايضا للكاتب الفرنسي لافونتين , والتي ترجمها كريلوف بنفس ذلك الأسلوب الروسي الخالص ( إن صحّ التعبير) , والتي أصبحت كذلك – بالنسبة للروس - ترتبط باسمه , مثل حكاية (الغراب والثعلب) , التي أشرنا اليها أعلاه . تقدّم حكاية الذئب والحمل ايضا للتلميذ الروسي درساً تربوياً رائعاً بشكل غير مباشر , إذ يرى هذا التلميذ اليافع كيف يتصرّف الذئب من موقع القوة, من أجل ان يفترس الحمل الصغير المسكين , ويحفظ التلميذ الجملة الأولى التي ترد في بداية هذه الحكاية , الجملة الحكيمة , التي تؤكّد , أن الضعيف مذنب دائماً أمام القويّ .

لقد اختارت لجنة المناهج حوالي عشرين حكاية وأسطورة لكريلوف , منها مثلاً , الكذاب / برميلان / الفضولي / الحمار والبلبل/ الفيل والكلب الصغير / وغيرها , وكل هذه النتاجات المتنوعة الجميلة تحمل في سطورها حكمة تربوية عميقة ,و تؤكّد على القيم الأخلاقية في حياة الإنسان في إطار رشيق ومرح وشفاف ...

حكايات كريلوف وأساطيره (التي ترجمها أو استعارها من الثقافات الأخرى وصاغها بلغته الجميلة) تساهم بشكل واضح في تربية الأجيال الروسية الصاعدة , فمتى تساهم حكايات ابن المقفع وأساطيره التي ترجمها لنا في تربية أجيالنا الصاعدة ؟

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram