TOP

جريدة المدى > عام > ما تكون صورة العالم غداً؟

ما تكون صورة العالم غداً؟

نشر في: 10 مايو, 2020: 09:06 م

أدونيس

I

مَن يقول لي إنّ التّاريخ يعرف دى الشّعوب في العالم كلّه مشهداً كمثل هذا المشهد:

البشر كلُّهم في جهة، والوباءُ الكورونيّ في جهة، الاّ في العالم العربيّ الاسلاميّ: شعوبُه كلُّها، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، مأخوذةٌ بإبادة بعضها بعضاً، أفراداً وجماعاتٍ وفي مختلف الميادين.

والكورونا بينهم وحولهم "على الله!"

أهي "آيةٌ" ‘إلهيةٌ، أم ماذا؟ 

أيّاً كانت الإجابة، نرى انّ "المصالِحَ" مهما كانت صغيرة اليوم، هي التي تُهَيمِنُ على "القضايا" مهما كانت كبيرة. وهي مَصالِح ترتبط عمَلياً بالسّلطة والمال، وتبالِغ في بَسطِ هَيمَنتها حتى أنّها تكادُ ان تطمسَ الحضورَ الإنسانيّ نفسَه، وتُحِلُّ محلَّه الحضورَ الآليّ.

الليبراليّة الجديدة في صورتها الامريكيّة هي قائدةُ الاوركسترا في جوقاتِ هذه الهيمنة "الثقافية" بتجلّياتها جميعاً، مَوْضوعةً في "الكيس" الإعلاميّ الذي تسهرعليه هذه الليبراليّة، باسم العَوْلَمةُ، وهي، كما تؤكّد التجربة، عَوْلَمةُ الابتذال الذي يقوم على تمجيد السوق والكم، وعلى تمجيد الآلة والشيء.

II

إنها "الوَباءُ الكَوْنيّ" الذي يتقدّم في غًزْوِهِ وزَحْفِه الجَديدَين، لكي يُحوَّلَ الآلة إلى إله!

مهما كانت الآراء والتساؤلات متنوّعةَ ومتباينة حول العَوْلَمةُ، هذه العَوْلَمةُ، فمن الممكن القول إن المشكلة العميقة التي تثيرها واحدة، وكان قد أشار إليها سابقاً ثلاثة مفكّرين فلاسفة، كلٌ بطريقته: 

هيدغر، في مفهوم "الجشطالت"

هابرماس، في مفهوم "تقنويّة العِلم" أو "تصنيع العلم"، 

ليوتار، في مفهوم "ما بعد الحداثة".

وتعني هذه المفهومات الثلاثة امرا واحداً:

تحقُّق الميتافيزيقا في الحياة اليوميّة، أو بعبارةٍ ثانية، قد تكون أكثر إيضاحاً: ما وراء الطّبيعة هو الآن الطبيعة نفسها.

كأنّ السماء هبطت فعليّاً على الأرض، وها هم جنودها يملأون الشوارع، رقباءَ وحُرّاساً، ويتهيَّأون لفتوحاتِ بلا نهاية.

بلى، كأنّ الغيبَ (الخيال) صار هو نفسُه الواقع، فتحقُّق الميتافيزيقا هو الآن ساطِعٌ في "وول ستريت" و"البنتاغون" كما يقول ليوتار.

III

التّمجيد الذي أشَرْتَ إليه الآلة، تمجيد السّوق والكمّ والشّيء آخذٌ في إيغالِه الفتّاك: تدمير الأرض – رَحِماً وولادةً، في مختلف الحقول، وتدمير العلاقات، تبعاً لذلك، بين الناس والطّبيعة، فضاءً ونوراً، غذاءً وكساءً، ماءً وهواءً. وها هي الأرض، الكَوكبُ الأجمل، تكاد أن يمسخَها أبناؤها في مَعازِلَ ومَحاجِرَ وكهوفٍ:

مستودَعاتٍ للتقنية وآلاتها، معسكَراتٍ للغَزْو والنّهْب، حاويات للنّفايات من كلّ نوعٍ، بدءاً بالنَّفايات الذّرّيّة. وليس هذا كلّه إلا تدميراً للإنسان نفسه، وتدْميراً لهذه الليبراليّة وقادَتِها: لعلّهم يُدرِكون آنذاك، وإنْ بعدَ فَواتِ الأوان، أن السيّد "هنا" ليس في "جوهرِهِ" إلا عَبْداً.

IV

يقدَّم الفضاءُ الاستراتيجيّ العربيّ وثرواتُه لهذا العبد – السّيّد إمكاناتٍ كبيرةً لكي يملأ السّاحةَ الكونيّة، بالتّماثيل المتنوَّعة للعجْلِ الأسطوريّ الجديد، العجْل المَنْحوتِ بذهبٍ أسودَ هذه المرّة- حيث تتمثّل القوّة، والطّغيان، والبطْش، وحيث "تُطْبَخُ" المغامراتُ والفتوحات والهَذَياناتُ الكُبرى من كلَّ نوع.

العَجيبُ هنا، وهو ما يجب أن يلاحظه ذوو البصيرة، يكمنُ في ذلك "السرّ" الذي "يوُحّدً" بين "الآلةِ" و"الإله"، بين خطاب "الآلة الواحدة" وخطاب "الإله الواحِد". وهو خطابٌ مُؤلَّلٌ (من الآلة) – لا ضدَّ الطبيعة وحدها، وإنما أيضاً ضدّ الإنسان في كينونتِه وجوْهَرِه.

والعجَب يكمن أيضاً في أن أصحابَ هذا الخطاب "يجهلون" أو "يتجاهلون" كيف أنهم يقدمون بلغتهم ذاتها وحبرهم ذاته صورة لإلهٍ يكره البشر ويعمل على إبادتهم واحداً واحداً. وأنهم بفعلهم هذا، يلوثون السّماء كما يلوثون أختها الارض.

نعم لا يقدر الإنسان بوصفه إنساناً، وبفعل حضوره الخلاق على كوكبنا الأرضي، أن يدير ظهره لما يفعله "أخوه"الإنسان – الآلة.

V

لا يقدر أن يفعل كما فعل أورفيوس: يدير ظهره لحبيبته أوريديس، تاركاً حبًّهُ وحيداً، في الجحيم. وماذا، إن كان صادقاً، يقدر أن يفعل بعد أن "يترك" حبه لهذا المصير الجحيميّ؟

ماذا يمكن، إذاً، أن نفعل خلافاً لما فعله أورفيوس؟ وهو سؤالٌ أطرحه، فيما يزداد "عالم الآلة" كمالاً ويزداد "عالم الإنسان" نقصاً. فيما يزدادُ الأول سيادة وهيمنةً، وفيما يزداد الثاني عبودية وعجزاً. كأنّ الإنسان في ضوءِ ذلك يبدو حقاً أنه "يتجه نحو المستقبل، سائراً إلى الوراء" وفقاً لعبارة بول فاليري.

VI

أنجز الغربُ الأوروبي – الأمريكي ثلاث ثورات علمية- تقنية، توجه القرن الحادي والعشرين وتخلع طابعها.

1. الثورة الكمية التي أدت إلى التحكم في المادة، وإلى نشوء أشكال للحياة نفسها تُعرف للمرّة الاولى. وهي ثورة أنهت على صعيدها الخاصّ المعرفة اليونانيّة.

2. الثورة الالكترونية التي أسست لعالمٍ معرفيّ جديد.

3. الثورة الحيوية – الجزيئية (البيو- تقنية)، وهي التي أخذت تتحكّم الآن في الحياة نفسها بأشكالٍ متنوعة تستجيب، كثيراً أو قليلاً لرغبات البشر.

هذه الثورات خلخلت اليقينيات كلها، وتولدت عنها مشكلات "خلق الإنسان نفسه" وتعميق الفوارق بين الناس "الجينات والكيمياء البيولوجية، تهديد حريات الفرد، والحريات المدنية، الثورة الالكترونية) وهي مشكلات تطرح أسئلة كثيرة على الانسان نفسه، سواء كان مُلحداً أو مؤمناً. خصوصاً أنها ربطت العلم بمتطلبات الاقتصاد والسياسة، وبمنطق السّوق.

VII

لم يشارك العرب في أية ثورةٍ من هذه الثورات. الحياة العربية- اقتصاداً وثقافة وسياسة، هي برمّتها نتاج غربيّ. – وقد بدأ الغربُ الأمريكي – الأوروبي، بإعادة إنتاج الدين نفسه، سياسياً و "ثورياً".

ويمكن وصف حالة الشعوب العربية، اليوم، بأنها لا تزال، منذ أربعة عشر قرناً،حالة "أطفال" يعيشوف في بلدانٍ ليست إلا "دور حضانة" تسهر عليها السياسة الدينية، تربية وتعليماً.

وفي هذا ما يفسر سبات "الثبات" العربيّ، ويفسر أن ما يتغير في "دور الحضانة" هذه هو "المعلم" وحده والأفضل في هذا "التغيير" هو أن يكون المعلم الذي يخلفه "مثله" تماماً، ويسير على نهجه تماماً، وهو مايفسر أيضاً أن ما يكون هذا القفا، أكثر سوءا بكثير مما سبقه.

تاريخ العرب الحديث على الأقل، منذ الانقلاب العراقي في القرن الماضي 1958 حتى الانقلابات الربيعية الحديثة، شاهد لا يمكن تكذيبه.

VIII

لكن مع هذا كله للعرب حضور "مادي" ضخم كماً عَددِياً، وفضاءً استراتيجياً، وثروات اقتصادية ومالية، غير أن هذا كله "لا يملكه" العرب:

بعضُ الغرب يملك بعضه، وبعضه الآخر يتسابق على مُلك بعضه الآخر المتبقي أو الخفي! وهذا كله بسبب من تبعيّتهم له على نحو شبه مطلق، وفي جميع الميادين.

هذه ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ الشعوب.

لماذا، لماذا، لماذا؟

وما تكون الأجوبة إذا طرحنا، مثلاً في هذا الأفق أسئلة من هذا النوع؟

1. ما النمط العقلاني – الثقافي عند العرب، إسوة بالأنماط العقلية- الثقافية، في بلدان الغرب والشرق؟ والتي أسهمت في بناء الحضارة الحديثة؟

2. لماذا لا تسمح السلطة الدينية، بصياغة مواقف عقلانية ثقافية، أو قيمية- أخلاقية في معزل عن الفقه، وتتمأسس في الحياة اليومية، - في البيت والمدرسة والشارع والجامعة والسّلطة، ولماذا لا تعترف بسلطة العلم، و"حقائقه"؟

3. ما يكون دَورُ العرب، معرفياً، وعلمياً، وأخلاقيا، في مصير النّوع الإنساني نفسه، بدءاً من "خلق" الذّكاء الاصطناعي و "خلق" الإنسان الآلي؟ وهل سيبقون في "دور الحضانة" أم يخرجون منها، وكيف؟

IX

تلك الأسئلة أُعيد طرحَها، في المقام الأوّل، على أنفسنا نحن العرب الذين ننتجُ للوحشية الليبراليّة، الغربية، ذلك "العجل الأسود" الذّهبيّ، نفطاً و(غازاً)، والذي هو وفقاً لعبارةٍ بريختيّة، على الأرجح، "عصير الجثث"، جثث المعادن المتنوعة في أعماق الأرض، والذي يتحوّل في المُمارسة إلى "عصير جثثٍ بشريّة" يسيل دامياً على وجه الأرض.

وأحب أن أُضيف سؤالين أطرحهما على الأفراد الخلاقين الأفذاذ العرب، وهم كُثرٌ في جميع الميادين، كما قلت وكررتُ في مناسبات سابقة، خصوصاً أنهم إلى ذلك يرثون ثقافة تقوم على أسسٍ نبويّة لاهوتية.

السؤال الأول هو:

ما الفرق في فعل العبادة ذاته، بين أن يتوجه به الانسان إلى حجرٍ (تمثالٍ، صنم)، أو إلى "صورة"، أو إلى "فكرة" أو إلى "عجلٍ ذهبيّ" أو "عجلٍ نفطيّ"؟

ما الفرق خصوصاً، إذا كنّا نؤمن حقاً بأن الإنسان "حيوان عابد"؟ وهل يمكن تحديد الإنسان بأنه لم يُخلق إلا لكي يعبد من خلقه؟ وهل هذه مسألة محلولة،أم أنها مسألة للبحث، أم أنها لا هذه ولا تلك؟

والسؤال الثاني هو التالي:

-لماذا يُعذّب أول يقتل الإنسان انطلاقا من مُعتقد خاصّ هو غالباً دينيّ – عنصري؟

علماً أن الطبيعة لا تعذّبه. وأن ما وراء الطبيعة لا يعذّبه أيضاً، وأنّ أسبابَ شقاء البشر ليست إلهية، وليست شيطانية، وأنها تصدر عن الإنسان ذاته، ومنه هو ذاته.

لماذا يسكتُ عن ذلك أهل الأديان انفسهم، خصوصاً عندما يسكت عنه أهل السلطة والطغيان والمال، أو ما يمارسونه هم أنفسهم؟

وسؤالي الأخير:

لماذا لا يكون شقاءُ الإنسان الشّغلَ الشاغل، الأول للإنسان، إذا كان إنساناً حقاً؟

وبأي عدلٍ أو دينٍ يمكن العربيّ اليوم، أن يكره الفكر أو التعقُّلَ العلماني، أو الحقوق المدنية، أو الحريات، أو يقبل بعدم المساواة بين الرجل والمرأة، أو بثقافة التّفكير؟

أليس هذا كله رفضاً للإنسان ذاته؟

باريس، نيسان 2020

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram