د. فالح الحمـراني
بعد مصادقة مجلس النواب على حكومة مصطفى الكاظمي تنفس الشارع العراقي الصعداء، أملاً في أن جماهيره ستجد الحلول الناجعة للملفات الراهنة التي أهملتها الحكومات السابقة، وستدشن مرحلة إحلال الاستقرار وإطلاق عمليات إصلاحية فعلية في جميع أركان الدولة، وتنقي الأجواء بين الكتل والجماعات والشرائح والمذاهب والأعراق المتصارعة، وتحس الأوضاع الخدمية والمعيشية للملايين من العراقيين،
وتواجه بجدية التحديات الماثلة وفي مقدمتها إنعاش الاقتصاد والتصدي لصحوة الدواعش الذين رفعوا رؤوسهم من جديد، وبالتأكيد لجائحة فايروس كورونا التي تحصد نفوس البشر على خلفية انعدام الأمل في القضاء عليه في المستقبل المنظور وتقيم مبادئ السياسة الخارجية على أساس منفعي لمصالح البلاد وليس من منطلقات مذهبية وعقائدية. لاسيما وأن أعضاء الكابينة الجديدة من الكوادر المهنية ذات الأهلية في اختصاصاتها.
إن النتائج التي أسفر عنها التصويت على حكومة الكاظمي تشي بصورة واضحة بأنها موافقة برلمانية جاءت " على مضض "، وتَجسدَ هذا في أنها جاءت بهيئة كابينة "منقوص". فقد تم رفض أو تأجيل التصويت على 7 حقائب وزارية، وهذا سيعرقل عمل الوزارة مهما كانت الفترة الزمنية التي سيتم فيها ملء الفراغ. وسوف تستمر القوى التي ساهمت في إحداث هذا الفراغ وضع المزيد من العراقيل أمام تنفيذ البرنامج الحكومي، بما فيها النقاط المفصلية فيه، وبالمحصلة سيفضي ذلك إما الى حدوث مواجهة بين رئيس الوزراء الجديد والقوى المتنفذة أو الى تنازله أمامها والسير وفق هواها وانتهاج خططها كما تخاذل أمامها بسهولة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، أو عودة الاحتجاجات الجماهيرية بشكل أو آخر وفق الأجواء الجديدة التي خلقها فايروس كورونا.
إن التطورات المقبلة ستعتمد إلى حد كبير على مدى طموحات مصطفى الكاظمي، وهو صاحب خبرة وثقافة سياسية، هل سيقبل بأن يكون شخصية تكنوقراطية انتقالية، تُهيأ البلد للانتخابات، أم سيعد نفسه لدور سياسي مستقل للمساهمة الجدية في إخراج العملية السياسية من الباب المسدود الذي وصلت له، وسحب "العراق ـ السفينة " من المستنقع الذي رست فيه، إذ إن مثل هذه المساهمة تستدعي وجود القيادة، أي القدرة على مساعدة الناس على تحديد الأهداف وتحقيقها، أمر بالغ الأهمية خلال الأزمة. وفيما ستتشكل أو يشكل رئيس الوزراء الجديد كتلة سياسية وفريقاً واسعاً له، فضلاً عن الشكل الذي ستتطور الاحتجاجات الجماهيرية، وربما تحولها الى حركة سياسية واسعة النطاق تشمل جميع أنحاء العراق وتكون هيئة تعزز وحدة الشعب العراقي وترسم أهدافه.
إن الأحزاب التي تنفذت بالشأن العراقي منذ انهيار الديكتاتورية، وبرهنت تاريخياً على فشلها في إدارة البلاد وصيانة أمنها، وبناء اقتصاد راسخ لها، وتعميق وحدة شعبها وتأمين الحياة الكريمة للمواطن، والتي ركزت جهودها على جوانب جانبية دون النظر في الستراتيجيات بعيدة المدى، فَجَرَت العراق الى الحروب الطائفية وتنازلت عن سيادته، وكرست الانقسام المجتمعي، إن هذه القوى ستماطل حتماً في القبول بالعيد من نقاط برنامج الكاظمي المعلن، لاسيما إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، نظراً لإدراكها بأن حظوظها في الفوز بالأغلبية البرلمانية لم تعد " لقمة سائغة" فشرائح واسعة اكتشفت حقيقة جوهرها ومدى التزامها بالشعارات والوعود الانتخابية، كما أيقظت الحركة الاحتجاجية الحس الوطني الحقيقي لدى المواطن العراقي، وعَرَّت حقيقة أولئك الذين تستروا وراء الشعارات الدينية والمذهبية، إن تلك الأحزاب ستستميت من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، حتى لو استنجدت بمليشيات داخلية وخارجية، ووضعت المزيد من العوائق أمام رئيس الوزراء في حال عدم الانصياع لها.
وليس من المستغرب أن هناك من يرى ضرورة أن لا يسعى رئيس الوزراء الجديد الى القيام بالتغيرات الجذرية، وأن يدع "السفينة" تسير على المياه الهادئة، لأن الانعطافات الحادة، برأيهم، قد تؤجج أكثر الوضع الأمني وتنسف ما تبقى من استقرار البلاد، وتجعلها عاجزة عن مواجهة التحديات الماثلة، بما في ذلك الدواعش وفايروس كورونا، وتعرقل إيجاد الخطط الناجعة لإنقاذ الاقتصاد، وإن هذا يستدعي عدم تغير الاصطفاف السياسي القائم، كأسلوب لرص الصفوف، وفتح المجال للتطور التدريجي.
ولكن ثمة تحديات أخرى تواجه لكاظمي وكابينته الذي يبدأ العمل في ظل استمرار اتسام الوضع العسكري السياسي في العراق بالتعقيد وعدم الاستقرار. كما أن البلد في حالة أزمة سياسية عميقة وطويلة الأجل. ويشهد استفحال التناقضات الحادة بين القوى السياسية العراقية النافذة. وستتحرك في ظل انعكاس تداعيات وباء فايروس كورونا الجديد بشكل ملحوظ على الوضع في العراق، وزيادة عدد المصابين بهذا المرض في البلاد بإطراد. وتكثف عصابات الإرهابيين من تنظيم الدولة الإسلامية من عملياتها الإجرامية.
وتنهض أمام حكومة الكاظمي التحديات الأمنية الخارجية والتدخلات الأجنبية في الساحة العراقية السياسية وانتهاك حرمة سيادته، وضمن هذا السياق ما تزال المواجهة المتصاعدة بشكل دوري بين الولايات المتحدة وإيران تشكل التحدي الرئيس للسياسة الخارجية للعراق. وواصلت القوات المسلحة التركية شن عملياتها العسكرية في الأراضي العراقية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وهاجمت القوات الجوية التركية المخيمات وغيرها من مرافق حزب العمال الكردستاني. في المجموع ، تم تسجيل 5 غارات جوية الشهر الماضي - في 15 و 17 و 20 و 23 و 24 نيسان (في آذار - 6 غارات جوية) .
وتشير الدلائل الى أن واشنطن، لا تنوي سحب القوات من العراق ، بل إنها تؤخر مناقشة هذه القضية على مستوى رسمي. وأُبلغت عن نقل طائرة مقاتلة متعددة الوظائف من الجيل الخامس من طراز F-35A إلى المطار الدولي. وهناك حوالي 20 مروحية من طراز CH-47 Chinook و UH-60 Black Hawk و AH-64 Apache منتشرة هناك. وتوجد في القاعدة الجوية في كردستان (حرير) مروحيات MH-47G و MH-60M وطائرتان من طراز King Air ، تستخدمهما عادة قوات العمليات الخاصة الأميركية. وقال مسؤولون أمريكيون إن نظام الدفاع الجوي باتريوت منتشر حالياً في قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار وفي القاعدة في أربيل. بالإضافة إلى ذلك ، تم نشر نظام الدفاع الصاروخي قصير المدى في قاعدة التاجي بالقرب من بغداد.
إن الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية له الأثر السلبي على الاقتصاد العراقي. ويواجه العراق ، الذي يعتمد على عائدات النفط (أكثر من 90٪ من الميزانية) ، حالياً أدنى أسعار النفط الخام منذ أكثر منذ عقد. وبدأ في خفض إنتاج النفط بنسبة 22.8٪ اعتباراً من الأول من أيار لتنفيذ أحدث اتفاقية تم تبنيها بموجب أوبك + .
إن هذه التحديات الخطيرة التي تجابه البلاد، وتهدّد أمنها الوطني تتطلب وحدة القوى السياسية بأجمعها بما فيها القوى الفاعلة غير الممثلة في البرلمان، والالتفاف حول برنامج موحد، وتعميق حسّها الوطني وتغليب مصالح الوطن على المصالح الأنانية ضيقة الأفق مهما كانت الذرائع لها، ونيلها ثقة الشعب، وتعزيز وحدته وتكاتفه مع الحكومة في قرارتها التي تكون واضحة بأنها تصب في مصلحة الشعب والوطن.