TOP

جريدة المدى > عام > قداسة الطين في الأسطورة والدين

قداسة الطين في الأسطورة والدين

نشر في: 11 مايو, 2020: 09:19 م

ناجح المعموري

على الرغم من توفر الأفران الغازية والكهربائية ، ومغادرة تلك التنانير الفخارية لبيوتنا واعتمادنا على ما تنتجه المخابز الأهلية من خبز وصمون ،

فإن أهالي الزقاق الذي تسكنه في حي القاهرة " أم مهند " اعتادوا على مشاهدة النيران المتوهجة التي تنطلق يومياً مع شروق الشمس من تنورها الطيني الذي يحتل زاوية من الطابق الثاني لمنزلها .

هؤلاء الجيران من تستهويهم تلك الرائحة الزكية المميزة التي يبعثها رغيف خبز ناضج التي تملأ أجواء زقاقهم الصباحية الندية ، ويستذوقون أرغفة التي تصلهم هدية من المرأة الستينية التي تؤكد أنها وأفراد أسرتها تعودوا على تناول خبز التنور الطيني منذ الصغر ، فهي الأكلة المفضلة لديهم مع كل وجبة إفطار وطالما تناولوه لوحده لطعمه اللذيذ وقت يكون حاراً لسعته النار مستبقية بعض أثارها على وجهه .

هذه التنانير عندما انسحبت من منازل المدينة ، وجدناها بقيت تسكن القرى الريفية . كما رأيناها تستقر في عدد من المخابز والمطاعم الأهلية ، فغادرتها الحياة ، وصار لها مريدون ، فاستمرت الورش على إنتاجها وظل البعض يستوردها من النجف الأشرف ليبيعها في العاصمة ومدن العراق الأخرى . غير أن خلف حسن صاحب معمل صناعة تنانير الطين في المنطقة المحاذية لساحة عدن الذي أمضى حياته في هذه الحرفة وأتقن إنتاجها بمختلف القوالب والمقاييس يستدرك ما ذهبنا اليه فيقول : إن هذه المهنة لم تتوقف يوماً ، لكنها قد تواجه الركود في بعض الأحيان لاسيما في مواسم الشتاء إذ يحتاج التنور الواحد الى عشرين يوماً لينشف بعد صناعته ونضطر أحياناً الى إيقاد النار داخله للإسراع بإيصاله الى حالة التيبّس بينما ينجز التنور في الصيف خلال أسبوع .

وعن المواد الأولية يوضح إنهم يأتون بالتراب من محافظة النجف وبالذات من منطقة بحر النجف لاحتواء الأرض على مادة ( طين الخاوة ) التي تكسب القوة للتنور ويخلط التراب بمادة التبن والنفاش اللذين يؤخذان من القصب والبردي لتتماسك العجينة بعد وضع التراب في حوض كبير من الماء ويترك .

التراب والماء في اللغة الاندنوسية يعني البيت / بندكت اندرس / الجماعات المتخيلة / ت : محمد الشرقاوي / ص 147/ ودلالته معروفة ويبدو بأن التسمية لها ارتباطات رمزية . إنه الوطن / الرحم / العمل الجمعي / البناء ، وينطوي ــ أيضاً ــ على ثنائية تقوم عليها الحياة . هما عنصران من عناصر نظرية الخيال الباشلارية وكذلك نظرية الأنماط الرمزية للعالم يونغ . ولا يمكن لواحد من الاثنين ، التراب أو الماء أن يمنح حياة وحده . لما تبدو قيمته ودلالته بسيطة للغاية إذا نظرنا له وحده . لا قيمة للتراب بدون ماء ، وماذا يعني الماء بغير الأرض . وتجاورها يفضي بهما نحو نظام الخصوبة والتنوع الانبعاثي الحيواني والبشري . وفي الأساطير المصرية ، قامت إيزيس بمزج لعاب الإله رع بتراب الأرض ، وصنعت حيّة من طين ، نفخت فيها الحياة وأرسلتها في طريقه .

طين الخلق وأيضاً للخصب . كيف تخصب الأرض اليابسة كي تصير طيناً أو منداة . وسيلتها الوحيدة الانبعاث . فالطين تحضير لفعل إعلان عن الحياة عبر انبعاث ربيعي . الطين يهب ولا يتناقص ، يعطي جزءاً منه لينتج عملاً . وفي كل ذلك يظل مكتملاً وغيره ناقص وكأنه حاز صفة الألوهة ، لسبب بسيط لأنه مخلق الآلهة من فضلة الطين التي خلقت النخلة وكذلك آدم . هو مخلق الآلهة المذكرة والمؤنثة أي في مكوناته أنوثة وذكورة ، وحتماً هو موجود خنثى ، وإله لا يحتاج مكملاً له ، إنه مكتف بوجوده ، يقيم رمزياً اتصاله مع الجزء المؤقت وينتج امتداداً له ، وهذا ما عرفته الحضارات في عتباتها الأولى . ويؤيد الطين أولويته المبدأ الأنثوي على الأنثوي ، مع كونه مفردة مذكرة لكنه مؤقت بتبدياته وتخليقاته .

نتذكر دائماً الطريقة التي خلقت بها الآلهة الأم ~الأكدية أنكيدو ، بعدما طلب منها الإله آنو ذلك ، مخلوق من الطين . وفي مرثية جلجامش بعد وفاة صديقه حضور للطين أيضاً :

على الطرق البعيدة أجوب البرية ، 

وقصة أنكيدو " صديقي مخيمة على " 

" على الطرق البعيدة " أجوب " البرية " 

" فكيف استطيع أن اسكت " كيف استطيع أن أهدأ ؟

" صديقي الذي احبه اصبح " مثل الطين 

أنكيدو ، صديقي الذي احبه " أصبح " مثل الطين " / د. نائل حنون / ملحمة جلجامش / دار الخريف / دمشق / 2006/ ص 2004// 

ومن أسطورة أفريقية ، خلق الإله الإنسان بمعونة القمر ، إذ عجن جسمه من صلصال ( طين ) ثم كساه جليداً وصب فيه دماً في نهاية الأمر . ودعاه بأنسي . ثم همس في أذنه يأمره أن ينجب أطفالاً كثيرين وجعلهم يطيعون ذلك الأمر ، وعندما كبر عاد الى السماء / الاساطير الافريقية / أصل الحياة والموت / ت : كاظم سعد الدين / الموسوعة الصغيرة ــ 3ــ 

وفي الأساطير السومرية خلق الإله أنكي ما لا يقل عن خمسة عشر إلهاً من الطين في أسطورة : حينما خلق آنو السماوات " وقامت الآلهة " مامي / ننتو / بخلق الإنسان من الطين الذي مزجته بدم الإله الذبيح .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram