TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العمود الثامن: الوباء الحقيقي

العمود الثامن: الوباء الحقيقي

نشر في: 27 مايو, 2020: 09:01 م

 علي حسين

ظل المترجمون العرب حائرين بين جان بول سارتر وغريمه ألبير كامو، وأمضى الراحل عبد الرحمن بدوي نصف عمره يحل ألغاز كتاب سارتر الشهير "الوجود والعدم" من أجل أن يقدمه للقارئ العربي.. فيما انشغل مترجمون آخرون بترجمة كل ما كان يكتبه أو يقوله فيلسوف الوجودية..

صف طويل من المثقفين تأثروا بسارتر، فيما قلة قليلة كانت تقترب من أعمال المتمرد ألبير كامو، وأتذكر أنني عندما بحثت عن رواية "الطاعون" لكامو وجدت نسخة طبعتها إحدى دور النشر المتواضعة، فيما كان الغريم سارتر يحظى بعناية دور نشر كبرى في مصر أو لبنان.. قبل أيام وقعت تحت يدي طبعة جديدة من رواية "الطاعون"، وقد صدرت بعد أن اجتاح العالم وباء كورونا.. كثيرة هي المرات التي قرأت فيها هذه الرواية، وفي كل مرة أتوقف عند هذه الجملة المثيرة التي يقولها بطل الرواية الطبيب ريوكس: "حين يعم الوباء تزحف المقابر إلى قلب المدينة". في قراءاتي المبكرة للرواية كنت أتوقف عند المعنى الذي أراد منا كامو أن ندركه وهو العمل على أن لا يصبح الوباء قانونًا يتحكم في مصائر الناس.

في واحدة من أجمل حواراته يحاول كامو أن يعلمنا معنى أن يتربى الظلم والطغيان والوباء في أحضاننا "ينشأ الشر في العالم عن الجهل، وربما تسبب النوايا الحسنة من الضرر بقدر ما تسبب النوايا السيئة إذا افتقرت إلى الفهم، ولعل أكثر الرذائل المستعصية على التقويم هي من قبيل جهل الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدعي لنفسه الحق في قتل الآخرين". وردًا على سارتر الذي كتب ينتقد الرواية على أنها تؤسس لأخلاق تسقط التاريخ ولاتجاه نحو العزلة السياسية، يؤكد كامو في رسالة إلى صديقه اللدود "لا أرى مناقشة جدلية للرد عليك سوى عشق جارف للعدل وهو ما يبدو لي خارجًا عن المنطق.. إنك ببساطة ترى اليأس بمنظارين، أما أنا فأرى اليأس وقد توزع على الجميع.. ولا دواء للطاعون إلا بإعلاء شأن العدل ومحاربة الجور الأبدي، وأن نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. في رفضي لليأس ولذلك العالم المعذب، إنما أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربًا على قدرهم البغيض".

يعلمنا كامو أن الأمم لا يصيبها الوباء إلا عندما يستبيح الظلم الناس.. في مدن الطاعون نعيش مع أناس همهم الوحيد الإساءة للآخر، تراهم منذ أيام يسخرون من فجيعة أم بابنها الذي قتل في تظاهرات النجف، ويستكثرون عليها أن تطالب بالحق والعدل.. عندما تجد من يدعي المعرفة والثقافة يسخر من آلام أم ثكلى ويستحضر حوادث تاريخية مرت عليها قرون ومختلف عليها، فعلينا إدراك أن الوباء الحقيقي الذي يجتاحنا ليس وباء كورونا وإنما وباء غياب الضمير. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

 علي حسين اظل أكرر واعيد إن أفدح الخسائر التي تعرض لها العراق ان الكثير من مسؤوليه وساسته غابت عنهم الروح الوطنية ، واصبحت كلمة النزاهة مجرد مفردة تلوكها الالسن ويسخر منها اصحاب الشأن...
علي حسين

كلاكيت: السينما عندما توثق تفاصيل المدينة

 علاء المفرجي بغداد والسينما.. المدينة والسينما.. كيف لنا ان نختار شكل العلاقة او ما الذي يمكن ان نكتشف من هذه العلاقة؟ وهل يمكن لبغداد كمدينة ان تنفرد مع السينما فتختلف عن علاقة المدن...
علاء المفرجي

الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!

رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
رشيد الخيون

قَدْحُ زناد العقل

ابراهيم البليهي حَدَثٌ واحد في حياة الفرد قد يُغَيِّر اتجاهه إذا كان يملك القابلية فيخرج من التحديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع وعلى سبيل المثال فإن هوارد قاردنر في السبعينات درَس علم النفس...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram