لطفية الدليمي
كتب الكثير من كُتّاب العالم عن قيمة العزلة ، كتب المنعزلون اختياراً في مديح عزلتهم وأفاضوا وأعلوا من شأن اعتكافهم في حيّزٍ محمي من تداعيات وانعكاسات أوضاع المجتمع والسياسة وتقلباتها على حياتهم ، وكتبت شخصياً عن أهمية عزلة الكاتبة كتجربة حرة لا إرغام فيها ؛
فهي عزلة تتسم بوحدة ممتعة منتجة تتحقق فيها الحرية والوقت الشاسع للعمل : أن تستيقظ وتنام وتكتب وتقرأ وقتما تشاء وتغنم زمناً حقيقياً في وحدتك فتلك إحدى تجليات الحرية ، وعندها تصبح عزلتك فردوسك الأغلى ؛ فهي – والأمر كذلك – عزلة فعالة لاموضع فيها للتذمر أو التراخي والإنصياع لترف العطالة والكسل ، عزلة مفتوحة بلا قيود ؛ فأنت تخرج أنىّ تشاء وتستقبل أصدقاءك وضيوفك في فردوسك الصغير عندما تقرر ذلك ، وهذه أجمل نِعَم الحرية في العزلة المختارة .
لكن ثمة بالمقابل هذه العزلة الحزينة المضطربة التي أرغِمَ عليها الناس لمواجهة وباء كورونا ، وهي عزلة مفاجئة لم تخطر على بال مخرجي أفلام الكوارث ولا قاربها روائيون كتبوا عن الأوبئة الغامضة ؛ فلم يسبق أبداً أن حُجِرَ 7 مليارات ونصف من البشر وأوصدت أمامهم سبل الحياة بطريقة فانتازية غاية في الغرابة .
أوجع الحظر الإجباري أجيالاً من البشر أدمنوا التجمعات والرحلات وارتياد المقاهي والمسارح والسينمات ، وبغتة وجدوا أنفسهم في مواجهة أمرين ثقيلين : مواجهة النفس مسلوبة الحرية ومكابدة التهديد بالموت ، وأطبقت عليهم كوابيس مهددة عندما فقد الملايين أعمالهم، وبدأت كبريات الشركات في العالم تستخدم عدداً أقل من العاملين الماكثين في بيوتهم .
إغتالت الجائحة الحريات وقلبت نظام العمل وحطّمت العلاقات بين البشر وغيرت أساليب العيش بعدما فرضت الحكومات مستويات مشددة من الرقابة بلغت حد المتابعة الألكترونية للجموع والأفراد ، وانتهى عهد الكائن الإجتماعي الذي إعتاد العمل والتنقل مع أمثاله منذ عصر الكهوف حتى عصر المعلوماتية ، وتحوّل إلى رهينة مكرسة للقطيعة الإجتماعية والتواصل الإفتراضي ، وبتوقف السفر بين البلدان والقارات تحققت عزلة كوكبية وضعت حدوداً بين الشعوب من جانب وأوقفت إلى أمد غير معلوم موجات الهجرة واللجوء والتنقل بين الدول . من هنا سيكون أمام البشر المعزولين مواجهة أنفسهم أولاً ، فلا ينبغي أن يكتفوا بالتذمر والإستسلام إلى خدر العطالة بل يتوجّبُ عليهم مساءلة أساليب العيش المعتادة وتحويل الكارثة إلى حافز للتغيير ؛ فقد بدأت بعض الشعوب بالعودة إلى الأعمال اليدوية البيتية والتخفف من نمط العيش الإستهلاكي الجامح والتحول إلى نمط عقلاني يلتزم بالضرورات التي تضمن لهم البقاء ليواجهوا ماسينتج عن أزمة الإقتصاد ومجالات العمل المتضائلة والضنك المادي المحتمل .
ناقشت روايات كثيرة فكرة اليوتوبيات التي تنشأ في العزلة بحكم الضرورة لا نتيجة فكرة فلسفية مسبقة ، كما فعلت في روايتي ( من يرث الفردوس ) حيث يتشكل مجتمع تصادفي قوامه معتزلون وهاربون من عسف سلطةٍ وعنتِ مجتمعِ في حصن أثري مهجور يتقاسمون فيه الأعمال الزراعية والنسيج وصناعة الفخار وممارسة الفنون ويقيمون يوتوبياهم الهشة ، ثم لاتلبث شهوة التسلط والإستقطابات أن تؤجج الصراع الذي يفضي إلى إنهيار التجربة . واليوم ، ومع أزمة الجائحة والإنهيار الإقتصادي وعزلة التجمعات البشرية ، يتوقع بعض المفكرين عودة شعوب فقيرة الموارد إلى تنظيم حياتها بشكل جماعي واتخاذ إجراءات حازمة كتحديد النسل والتعليم عن بعد لتوفير تكاليف المدارس واعتماد الإقتصاد الريفي وإقامة تشاركيات زراعية تفي باحتياجات التجمعات السكانية المعزولة مهتدية بمعطيات علمية تجنبها إنهيار التجربة كما حصل ليوتوبيات الروايات المتخيلة .