فاضل ثامر
ويبدو لي أن الناقد ناجح المعموري، لم يكن بعيداً أيضاً عن إدراك حقيقة العلاقة بين الفكر البدائي والفكر الأسطوري وأن الأسطورة في المنظور ما بعد الكولونيالي هي شكل من اشكال مقاومة الهيمنة الكولونيالية بوصفها تمثل تاريخاً بديلاً وتحدياً للمنظور الاستشرافي،
كما ذهب الى ذلك ( ابارنا هالب ) Aparna Halpe الأستاذ في جامعة تورنتو، الذي أكد في أطروحته للدكتوراه الموسومة: " بين الأسطورة والمعنى: وظيفة الأسطورة في أربع روايات ما بعد كولونيالية"المنشورة عام 2010 ، الى أن الأسطورة يمكن النظر إليها بوصفها فضاءً وسطاً بين السرد المقدس والسرد العلماني، مؤكداً على أهمية تناول النماذج البدئية أو النماذج العلياء archtypes في سياقها الاجتماعي.
وسوف نلاحظ في معالجات الناقد ناجح المعموري في كتابه هذا أنه ينطلق من فهم شامل لوظيفة الأسطورة، حيث يرى ان من خصائص الأسطورة تنوعها وتحقق استبدالات مهمة او ثانوية فيها ، لأنها نص متحرك في حركة الزمان والمكان ، ولا تكرّس الثبات ، ويتفق في كتابه " تأويل النص التوراتي " مع رولان بارت الذي يؤ كد على تحقق خاصية التبادل والاستعمال الخارجي ، لكنه يذهب مع شتراوس الذي يؤكد على ثبات البنية المركزية للأسطورة . كما اكتشف الناقد أهمية الربط بين الأسطورة والتأويل، حيث أشار في " تأويل النص التوراتي " الى ان الأسطورة هي الحقل المعرفي المهم والخطير الذي سيظل منفتحاً على التاؤيل، لأن الأساطير دائماً أرض غنية وخصبة، متعددة المستويات والطبقات.
وكما بينت سابقاً، فنحن بحاجة الى النظر الى تجربة الناقد ناجح المعموري، في قراءاته للنصوص الأدبية في " الأطراس الأسطورية "وكتابه "الأسطورة في السرد العربي الحديث" ، بوصفه تجربة في النقد الأدبي، وليست تجربة في النقد الميثولوجي الأسطوري فقط والتي اقترحها الناقد نورثروب فراي في " تشريح النقد " Anatomy of Criticism، 1957، وليست تجربة في النقد الميثولوجي الاسطوري فقط ، كما كان هو الحال في دراساته السابقة عن التراث الرافديني والتوراتي وملحمة كلكامش وغيرها، ذلك بالاستنارة بمجسات النقد الأسطوري، والذي كان أحيانا يستدرجه نحو مركزه الجاذب.
ومن هنا كانت انطلاقة الناقد في قراءة عدد من الروايات العربية الحداثية لعدد من الروائيين العرب المحدثين، في كتابه " الأسطورة في السرد العربي الحديث ". ففي قراءته لراوية " ترمي شرر " للروائي السعودي عبدة خال، حاول الناقد ناجح المعموري التقاط الرموز والمثيميات الميثولوجية التي تتحكم بالرواية، وركز على ثنائية الجحيم / الجنة. فالحي الذي يحمل اسم (الحفرة) هو بمثابة الجحيم بالنسبة للناس، أما بيت السيد فيمثل لبعض الشباب الواهمين والمحرومين الجنة. ولفت الأنظار الى أهمية رموز الماء والمطر. أذ يرى الناقد أن الماء من رموز الأنماط العليا، وهو أحد عناصر الخيال الباشلاري لدلالته على الذكورة. ورصد الكيفية التي تحولت فيها الاساطير الى أيديولوجيا، وبشكل خاص بالنسبة للجماعات الصحراوية والقبول بها كموروث ورأس مال رمزي، حصل تقليده في الحاضر وتكريسه لنسق اجتماعي. واستشهد براي للناقد سعيد الغانمي حول الحياة والموت بوصفهما الحدين لملحمة الصحراء، حيث إن شخوص رواية " ترمي بشرر " موجودون على حافة الحياة والموت.
وقد راقب الناقد عملية تحول الهامش الى فاعل بنائي وفكري، وصيرورته مركزاً، وبيّن كيف إن رمزية المقبرة قد انزاحت وصارت الرواية بذاتها مقبرة، مشيراً بشكل صريح الى مقولة المؤلف عبد خال الدالة، الى أن الأحداث في الرواية جثث تضمنتها مقبرة السرد.
وفي قراءاته لرواية "صخرة طانيوس "لأمين معلوف يوضح أن الأسطورة قد بدأت في اللحظة التي ولد فيها طانيوس، مثلما اكتسبت الصخرة طابعاً أسطورياً كذلك، وبالتالي تحول طانيوس ، بطل الرواية بدوره، الى أسطورة .
وكشف الناقد عن الكثير من العناصر الميثولوجية المغيبة ، وأشار مثلاً إلى مرور البطل بمراحل تحول تربوية وحياتية حاسمة وأحيانا متكررة، هي بمثابة طقوس "عبور " Rituals of Passage من وعي محدد الى وعي جديد، مثل الولادة، والبلوغ، والتعميد، والزواج، وممارسة الجنس، والرحيل والانقطاع عن المجتمع او إعادة الاندماج فيه. وطقوس العبور التي سبق للناقدة سوزان ستكيفتش وان درستها تدور حول طقوس احتفالية وشعائرية ينتقل فيها المرء،مثلاً، من جماعة الى فئة اجتماعية أخرى.
ويكتشف الناقد أن أسطورة طانيوس أخذتنا من المحيط الخارجي، السياسي والاجتماعي نحو مداخل الروح، حيث الأسرار وفيضها ورموزها المولدة باستمرار، وهو ما يفسر سر خلود أسطورة طانيوس على الرغم من غيابه المادي والجسدي الذي لم يحل دون حضوره من خلال اسطورته.
ويرى الناقد أن رواية الروائي الفلسطيني حسن حميد الموسومة "جسر بنات يعقوب " ضاجة بالأسطورة، حيث حاول الروائي تذويب الأساطير الأولى والاعتماد على اللغة، بوصفها مولدة للأسطورة، كما يذهب الى ذلك كاسيرر. ، من جهة أخرى فإن الرواية قد اتخذت لها مساراً تراجيدياً ، واختارت من التراجيديا الاولى إنموذجاً لها. ولفت الانتباه الى بنية النظام السردي للرواية وانتمائها الى ما ورا الرواية أو الميتاسرد من خلال الاعتماد على بنية المخطوطة والمدونة، وتداخل الأزمنة، حيث يكشف البياض في صفحات الرواية عن نظام المخطوطة الافتراضية وما حصل عليها من تغيير بسبب التقادم. وعكف الناقد على دراسة عدد من روايات الروائي اللبناني أحمد علي الزين وأولى روايته " خربة النواح " اهتماماً خاصاً، لاعتمادها على اسطورة اليومي والمألوف، واسطورة تلة الغياب. ورصد كيفية تحول الغياب الى أسطورة جمعية، حظيت بالتداول المستمر، لأن الجماعة لا تقوى على البقاء بدون تخيلات وتصورات، لذا فأنها تستمر في إنتاج الأساطير كجزء من حيويتها وإصرارها على البقاء. وهذه الأسطورة الجديدة لا تلغي الما قبل، بل تجعله يحوز على فضاء تداولي أوسع، مع بقاء الأسطورة الأولى محفوظة بالذاكرة، وبهذه الطريقة تتراكم الاساطير وتتوالد، لتسجل نمطاً ثقافياً.
وأشار الناقد الى تحول اليومي والمألوف الى مقدس، حيث تشكلت منظومة من العقائد والشعائر بعد دفن (دياب) لأنه صار قريباً من العالم الآخر، وبذا جعلت الممارسات من العادي / البشري مقدساً، وهو شكل من أشكال ممارسة العقائدي المصاحبة للديني.
وركز الناقد على رمزية القمر في الرواية، لارتباطه بعقائد خربة النواح وسكانها وبممارسة طقوس وشعائر مرتبطة بالخوف من المجهول، ذلك أن القمر يرمز للإشارة الى تكرار الغياب والفقدان. ونبه الناقد الى وضوح اشتغال الأيديولوجيا في الرواية، متفقاً مع الناقد بول ريكور، وبشكل خاص فيما انتجته اليوتوبيا من تخيلات لها علاقة مباشرة بالمجتمع والجماعات فيه.
وقد أنهمك الناقد في قراءاته لرواية "عزازيل " للروائي المصري يوسف زيان بالغوص داخل الميثولوجيا التي انغمست الرواية فيها ، ولم يقدم إضاءات تأطيريه كافية للبنية السردية ولحركة الاحداث والشخوص وتجليات الزمان والمكان وغيرها ، وخيل لي أن الناقد لا ينظر الى دور المترجم بوصفه كائناً ورقياً وتخييلاً افتراضياً من عنديات الروائي ، بل بوصفه كائناً بشرياً يقع خارج الرواية ، بيد ان الرواية بكاملها محض تخييل سري من بدايتها حتى نهايتها .
ومن الجانب الاخر لا يمنكن تجاهل الاضاءات التي قدمها الناقد للرواية وبشكل خاص في اشارته الى رمزية الحمامة التي تبدو كرمز للألوهة وللروح القدس، فهي روح القدس الذي خصب مريم العذراء.
كما توقف الناقد عند أسطورة الخصاء وكشف أن العلاقة بين الأنهار والبحيرات علاقة رحمية، لأنها رموز للام ورحمها الذي دائما ما يولد. وأشار الى أن البحر في هذه الرواية وإن لم يستمر طويلاً فيها، لكنه ظل مستمراً في داخلها مع كل التساؤلات الميتافيزيقية ورؤاها الكونية. وخلص الناقد الى ان الرواية طافية على بحور من الأساطير، والعقائد والطقوس.
ومن هناك نخلص الى أن الناقد ناجح المعموري قد اعتمد في كتابه هذا، وفي الكثير من مؤلفاته السابقة مجموعة من الآليات المنهجية لاستنطاق النصوص الميثولوجية ، منها ما اسماه بمفهوم " تقشير الأسطورة " والذي تبلور لديه ، بشكل خاص أثناء قراءته لملحمة جلجامش . ففي كتابه الموسوم " المسكوت عنه في ملحمة جلجامش أشار الى انه سيعمد الى فحص نص ملحمة جلجامش ونبش اعماقه وتقشيره، من اجل قراءة أكثر وضوحاً.
كما بين الناقد في كتابه " تقشير النص: قراءة في أسطورة أنانا، جلجامش ، شجرة الخالوب " بأن دراسته تنهض على تفسير الأسطورة ونزع طبقاتها المتراكمة ، ودراسة كل طبقة ومستواها ، وإن تقشيره لهذه الأسطورة تمثل سعياً لما هو جديد ، ذلك بالكشف عن مستوياتها الداخلية .
ويحيلنا مفهوم "تقشير الأسطورة " كما يخيل الى مفهوم رولان بارت عن النص بوصفه يشبه البصلة التي تتكون من طبقات متتالية دون ان تنطوي على نواة أو مركز معين. ولذا فقد كان يدعو الى تقشير طبقات النص المختلفة، ودونما بحث عن شكل بذاته او مضمون مستقل، ذلك ان هذه الطبقات متساوية في الأهمية .
الناقد ناجح المعموري مجتهد كبير وشجاع خاض غمار حقول معرفية صعبة ومعقدة وشق له طريقاً خاصاً في التحليل والنظر والتاويل محاولاً تحقيق هذا التوازن القلق دائماً بين مقاربات النقد الأدبي ومقاربات النقد الأسطوري وإغراء ات الاستنارة بإضاءات الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسيمياء والتأويل واللسانيات والايديولوجيا وغيرها ، فكان بحق الناقد الذي كان.