لطفية الدليمي
تسود قناعة مضمرة بين الفيزيائيين وعلماء الكونيات وفلاسفة العلم بأنّ القوانين الحاكمة لنشأة الكون وتطوّره هي ذاتها التي تحكم نشأة الكينونات الحية، وقمّة هذه السلسلة التطوّرية البيولوجية هو الإنسان العاقل Homo Sapiens ؛
ومن هنا نشأ الدافع الميتافيزيقي للبحث عن (نظرية كل شيء) التي ستوحّدُ القوانين الحاكمة للعوالم الكبيرة Macroworlds المحكومة بقوانين النسبية العامة مع العوالم الصغيرة Microworlds المحكومة بقوانين ميكانيك الكم ؛ ولما كانت القناعة السائدة في وقتنا الحاضر بأن الكون نشأ من متفرّدة Singularity قبل مايقاربُ 13.8 بليون من السنوات فسيكون من الطبيعي ( ولو على المستوى الميتافيزيقي ) أن يتفكّر المرء في شكل وكينونة المتفرّدة التي تصنعُ حياة الإنسان .
المتفرّدة - باختصار وبساطة - هي حالة نوعية يمكن توصيفها بانقلاب ثوري في الأطوار مصحوب بتغيير نوعي في طبيعة القوانين الحاكمة ؛ وعليه فإنّ شكل الكون في لحظة إنبثاقه الأولى كان شيئاً يصعب علينا تصوّره ؛ لكنّ علماء الكوزمولوجيا يرسمون له صورة تبدو شديدة الغرابة ؛ إذ لازمان ولامكان بالمعنى الذي نعرف فضلاً عن إختلاف كلّ القوانين الفيزيائية آنذاك عن تلك التي نعرفها ونتعامل معها في كوننا هذا .
لطالما تفكّرت طوال عمري في ماهية الشيء الذي يستحقُّ أن يكون (متفرّدة) في حياة المرء، وساند تعزيز بحثي هذا قناعتي المطلقة بأنّ كلّ الأشخاص الذين حقّقوا إنجازات مميّزة في حياتهم لابدّ أنهم عاشوا (أو خلقوا بالمعنى الأدق) متفرّداتهم الشخصية التي حققت إنقلاباً طورياً في حياتهم وجعلتهم ينظرون إلى الحياة بإطلالات جديدة لم يعهدوها من قبلُ . يمكن للمرء أن يتحسّس بعضاً من تلك المتفرّدات إذا ماقرأ السِيَر الشخصية للكثير من أكابر العلماء والفلاسفة وصانعي الأفكار في عالمنا .
أستطيعُ القول بعد خبرة معقولة في مسالك هذه الحياة إنّ الحبّ هو المتفرّدة الأكبر التي باستطاعتها إعادة تشكيل الحياة البشرية ورفعها من حضيض البؤس إلى مراقي الجمال ؛ ولكن، لنا أن نتساءل هنا : من أين تجيء قوة الحب الجامحة وسطوته القادرة في حيوات البشر ؟ ثمة شواهد كثيرة منها أنّ جميع البشر الأسوياء يحبون بطريقة تلقائية ويسيرة، يبدو الحبّ معها أقرب إلى آلية مرافقة للحياة ومصمّمة للإرتقاء بها نحو الأفضل؛ فنحن نحبّ بطريقة سلسة وأقرب إلى التلقائية ومن غير تدابير أو مساءلة أو قياسات منطقية، وتبدو صورة الإنسان أقرب للمثال عندما يكون عاشقاً ومحباً لكلّ تجليات الحياة، ولن ننسى هنا أنّ بعض فلسفات العيش المعروفة - مثل البوذية - إنما تضع الحبّ والتعاطف مع كلّ الكائنات الحية - من بشرٍ وأحياء أخرى - مثالاً سامياً تمارسه وتجعله مرتكزاً لكلّ حياة إنسانية سوية، وكم علينا أن نتفكّر في هذه الفلسفات ونتعلّم منها بدل الإنكفاء على مواضعاتنا التقليدية المحنطة.
عندما عدتُ من مستقرّي الباريسي الذي دام مايقاربُ السنتين عقب ارتحالي عن بغداد التي أحب، وبعد الإقامة في عمّان (التي أحب أيضا) أدركتُ أنني عند نقطة (تفردية) عظمى وفاصلة في حياتي : فقد اختلف كل شيء مابعد نقطة (التفردية) هذه اختلافا كليّاً عما قبلها ، فحين تجد متطلباتك المعيشية مؤمّنة في حدودها المقبولة (من غير تطلّب أو تحاسد)، وأنت في أمان حقيقي ووضع صحي معقول ييسر عملك الأدبي وحريتك ويعينك على التمتّع بطيب العيش والسعادات الصغيرة، وإذا كان هناك من يطلّ عليك عن قرب أو عبر الشبكة العالمية ليشيع البهجة في صباحاتك الندية فأنت إنسان محظوظ وسعيد بأكثر مما تظن.