د. ياسر عبد الحسين
(بداية الانحلال في الدولة وبداية زوالها حينما يبدأ قادتها باحتقار الشعائر الدينية لشعبها) ميكافيلي
لمدة ليست بالقصيرة كانت مقاربة العلاقات الدولية لموضوع الدين والعامل الديني والاعتقادي فضلاً عن الهوية الدينية نظرة خاصة، وكأنها ليس ذات صلة بمتغيرات السياسة العالمية وأحداثها تحت يافطة الإنعتاقية أو العلمانية أو الفردانية أو الفصل القسري أو الطوعي.
لكن البوصلة تبدلت اليوم، بالرغم من حجم الساحة الجدلية، الى حد أصبحت فيه ضرورة أن يُقاس ويُحلل أثر هذا العامل في جميع أنماط السياسات، هذا الاهتمام الجديد للدين يتمركز عند قاعدته في العالم الغربي حول الإسلام، منذ أحداث 11/9 وصولاً إلى صعود داعش.
مع وجود أحداث تعيد هذا الاهتمام الجيوسياسي للعامل الديني، أصبحت الهوية الدينية ركناً مهماً في منظور العلاقات الدولية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتحدة، الى حد دفع بإتهامات ضد صناع القرار في واشنطن بانهم يتبعون سياسات تأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد الدينية، وعلى العموم لم يعد بالإمكان إهمال عامل الهوية الدينية في العلاقات الدولية، لأن الدولة الأكبر في عالمنا اليوم تحف بها عشرات النظريات عن تأثير الدين في سياساتها وستراتيجياتها، بدأ من القراءة الدينية للحرب على العراق من قبل بوش الابن، وحتى الصلاة التي يدعو لها ترامب لمواجهة الوباء.
وبغض النظر عن المدارس الليبرالية أو اليسارية التي ترى في أن الدين أفيون الشعب أو كونه قيداً على الحريات السلوكية، فإن إهمال هذا العامل يعد إغفالاً لفهم تفسيرات وسلوك وهويات دول وشعوب سواء كانت علمانية سالبة أو موجبة، وسواء كانت هذه الرؤية تسعى لفهم القيم والهويات الدينية، أو توظيف الدول للدين واستعماله في العلاقات الدولية.
وكما أشرت في كتابي الأخير (الجيل الثاني للدبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية) إننا نعني بهوية العامل الديني في العلاقات الدولية : جميع ما تعتنقه الفواعل التي تقوم عليها العلاقات الرسمية وغير الرسمية، وتؤمن به من مبادئ وأحكام تضبط ممارستها فكراً وسلوكاً قولاً وفعلاً، وتحكم توجيهاتها سواء أكانت تلك المبادئ والأحكام أو المعايير المعتمدة في الرسالات السماوية، أو رؤى فلسفية وأيديولوجية أو موروثات ثقافية وتاريخية أو اجتماعية تمثل هويتها الاجتماعية او تدينها الشعبي.
وكما يعبر غراهام فولر Graham Fuller حين يكون الدين مرتبطاً بالسياسة، يجتمع معها عنصران هما أكثر عناصر الاهتمام الإنسان حيوية، ويستطيع التضافر بينهما أن يكون للأفضل أو للأسوأ، فالسياسة والدين كلاهما قد أستعمل أحداهما الآخر باستمرار عبر نسيج التاريخ، وفي الواقع، فإن من الغرابة أن تكون للسياسة، القدرة، في أي وقت من الأوقات، أن تبقى غير مبالية بهذه القوة المحركة القوية مثل الدين، بحجة الحيادية أو الاستقلالية.
ثمة منطقة مهمة في مساحة الدراسات الأكاديمية لم يتم تغطيتها بشكل واسع، هي موضوع ارتباط الهوية الدينية بمناهج السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، ولا يمكن نكران هذا الدور المهم لهذا العامل في تفسير المتغيرات اليوم، لهذا يصح قول Timothy Shah ( أصبح الدين أحد العوامل الأكثر تأثيراً في الشؤون العالمية في الجيل الماضي، لكنه لا يزال العامل الأقل دراسة من حيث التأثير في الشؤون العالمية )، ولهذا نعتقد أن صعود تنظيم داعش( ISIS )قد أعاد لموضوع هوية الجيوبولتيك الديني دوره في مساحة العلاقات الدولية، كما أن تصاعد تأثير الهوية الدينية في العلاقات الدولية يرجع الى عدة أسباب منها على سبيل المثال:
1 - تنامي الحركات الدينية في العلاقات الدولية وتفرعها بشكل مباشر، وخصوصاً تلك التي تمتزج في رؤيتها العابرة للحدود الوطنية بشكل مكثف، وتمازج السياسة الداخلية بالخارجية نتيجة للعولمة وغيرها.
2 - ظاهرة انتشار هوية الدين الشعبي الذي بدأ ينتشر بشكل واسع بين الشعوب.
3 - تنامي دور علماء الدين في العلاقات الدولية، وبرز مع ذلك موضوع الفواعل من غير الدول، وأكثر تلك الفواعل لها رموز دينية مميزة أضفت لها طابعاً شعبياً وحركياً.
4 - ظهور تطور جديد في العلاقات الدولية، تمثل في تغيير محتوى الصراع، حيث لم تعد الصراعات متجذرة في أيديولوجيات متمايزة، وأصبح أقرب الى موضوع الهويات الجماعية وأزماتها.
5 - تصاعد تأثير الجماعات الإسلامية واتجاهها نحو استنفار القوة الدفاعية للإسلام كحائط جيد أزاء الضغوط الخارجية، عقب ظهور أنماط جديدة في العمل الدولي، تمثلت بموضوع القاعدة وداعش وغيرها.
6 - تفاعل ظاهرة هويات الأقليات في العالم، وحقها القانوني والإنساني العام.
وإن كانت المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية الكلاسيكية التي ترى إن الدول لا تتحرك من أجل المصالح الايديولوجية أو القيمية بل من اجل المصالح المادية بالمقابل ترى المدرسة المثالية أن جميع القيم لها هدف البحث عن كرامة الإنسان وهذا يساهم في العمل على تنشيط وتقريب وجهات النظر بين دول العالم، لكن تراجعت الواقعية البنائية لتجعل للهوية الدينية اعتبار في سياسات الدول.
إذن لا تزال الهوية الدينية مهمة في العالم المعاصر بل وبارزة، على الرغم من الاستبسال الجديد لتيار الانفصال عن كل ما يتصل بالدين من جهة، لكن لا شك في أن ثمة إعادة إحياء سريعة ومؤثرة للدين منذ ستينيات القرن العشرين، اذا صار الدين بصراحة قوة سياسية كبرى، على الرغم أنه لم يصبح قوة ثقافية كبرى كما يراها أريك هوبزباوم Eric Hobsbawm وأنا اعتقد أنه أصبح قوة ثقافية ذات هوية عميقة جيو-اجتماعية في عصرنا الراهن وخصوصاً في مناطق مثل الشرق الأوسط.
وعلى سبيل المثال هذا الشرق الأوسط الأخذ للزوال بخريطته القديمة يعيش حالة من الاضطراب الشديد، الذي كان في جوهره المؤسسة السنّية الحاكمة، أما الشرق الاوسط الجديد، الذي يولد ولادة متشنجة وقيصرية، تخلل ولادته السيارات المفخخة، وأيضاً الانتخابات والمظاهرات، فان هناك ثمة هوية جديدة، كما يراها ولي نصر Vali Nasr.
فيما تؤكد وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت Madeleine Albright انه منذ هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، يجب تعديل عدسة السياسة الخارجية التي يتم النظر من خلالها العالم، ولفهم الواقع الجديد، وأن ساهمت ثورة المعلومات التكنولوجية قد غيرت العالم، لكن كان هناك قوة أخرى تفعل فعلها، وهي ازدهار الحركة الدينية في كل مكان تقريباً في العالم، ولهذا فقد اتسع بشكل ملحوظ نطاق اللاعبين الدوليين الذين يتمتعون بصفة دولية والقادرين على الاستفادة من حركة العودة إلى المقدس، وتقاس هذه العلاقة على ثلاثة مستويات: مستوى الستراتيجيات الدولية التي ينشرها اللاعبون الدينيون، ومستوى الإجراءات التي تنفذ في ظل بيئة ترابطية يتحكمون فيها بدرجة أو بأخرى، وأخيراً مستوى الحركات الاجتماعية التي تعتبر صدى لهم والتي تفلت من وصايتهم بدرجة غير متساوية.
يبقى في المجتمعات الشرق أوسطية يتسع المخيال الديني بمجاله الأرحب، ويصبح بمثابة قوة مادية ودافعة لمختلف الأحداث التاريخية، وإن نتاج المخيال لا يتمثل بتصورات ثابتة أو صالحة لكل زمان ومكان، فلكل بيئة ثقافية نظام رموزها ومنظومتها العقائدية التي تتحدد في فضائها العلاقة بين العقل والمخيال، أو بين الواقع وما فوق الواقع، فالمخيال في جوهره يختزن رغبة الفرد في تبيين منزلته في الكون ومصيره بعد الموت ومعرفة حقيقة الوجود ومعناها وجدواها، وقد يمثل هذا الحوار بين الأرضي والسماوي أزمة للميثولوجيا العالمية، حيث تؤدي المرويات والسرديات، وإن تعلقت بالخوارق دوراً مركزياً في امتلاك إجابات يتجاوز نفعها المجال الديني ليشمل الأيديولوجي والسياسي، فضلاً عن تحقيق التوازن بين الإنسان ومحيطه البيولوجي والنفسي والاجتماعي، وقد نبه المفكر محمد أركون إلى أن هذا العامل أدى دوراً مهماً في دفع عجلة التاريخ وتحريك الصراع فيه بتوظيفه لمفهوم المخيال الذي يستخدم كرد فعل على التطرّف المادي أو الماركسي في دراسة التاريخ، فليس العامل المادي وحده هو الذي يحسم حركة التاريخ، بل إن العامل الرمزي بلعب دوره أيضاً في هذه الحركة، وبخاصة في المجتمعات القروسطية حيث كان اقتصاد الكفاف هو السائد، وعموماً في كل المجتمعات الزراعية ما قبل الصناعية.
وعليه فان التفكير بأهمية هذا العامل لا يتعلق بالأيمان أو الكفر بالشيطان أو الملائكة بقدر ما يتعلق بنسق فهم مجتمعي وقادر على الولوج في هويته الحركية، وإن أبعاد هذا العامل تجنٍ وخصوصاً في عالمنا العربي في ظل قيام جامعات عالمية بدراسات عميقة عن تفاصيل الهوية الدينية الشرق أوسطية.
وكما نعرف أن محك التجربة هو أفضل مقياس للنظرية، فإن هناك ثمة سابقة نوعية ثقافية تربوية في عالم الهويات والأديان قدمها “سعد سلوم” الخبير في شؤون التنوع الديني وإستاذ العلاقات الدولية المساعد في الجامعة المستنصرية عبر تأسيس (معهد دراسات التنوع الديني) بمشاركة زعامات دينية وقيادات أكاديمية تسعى لنشر قيم التنوع تحت شعار (الوحدة في التنوع)، إذ يمثل المعهد المؤسسة الأولى من نوعها في المنطقة التي تدرس الدين كظاهرة في العلوم الاجتماعية، وتقديمها من قبل ممثلي الديانات أنفسهم، وتأخذ أبعاد التأثير الديني في السياسة الدولية. يعمل المعهد على توفير المصادر والمناهج دراسية ومناهج التدريب للاكاديميين ورجال الدين والطلبة، لغرض تنمية وعي المجتمع بالتنوع الديني لأن الجهل بالآخر مقدمة لصناعة جيل متطرّف.
وكان سلوم قد أرسى رؤية انطلق منها المعهد في عد التنوع ثروة وعامل وحدة من خلال كتابيه : التنوع الخلاق 2013 والوحدة في التنوع 2015، تنطلق من اعتبار العراق مركزاً للتنوع الديني في المنطقة، فهو يمثل المَركز الرُّوحي لليهود قرابة الألف عام، وكان رأس الجالوت البابلي المَرجع الأكبر ليهود العالم، فضلاً عن كونه رمز المرجعية السنّية في بغداد مثل الأمام أبي حنيفة النعمان وغيرهم من فقهاء المذهب السنّي، ومكان المرجعية الشيعية بوجود مراقد أهل البيت ناهيك عن مراجع الشيعة في النجف الأشرف ورمزيتهم العالمية، يمثل العراق فضلاً عن ذلك المرجِعيّة العالمية لطائفة الصابئة المندائيين، ومركز المرجعية العالمية للايزيديِّين، وللعراق موقع عالمي بوصفه يحوي مرجعية الكلدان الكاثوليك في العالم، فضلاً عن كنيسة المشرق الآشورية، وفي العراق مرجعية الطائفة الشيخية. ويضيف سلوم إن العراق يحوي فضلاً عن ذلك مرجعية الكاكائيين في شمالي البلاد، ومرجعية الشبك في منطقة سهل نينوى، كما تعتبر بغداد المنطلق الأول للبهائية. وسيعود سلوم في كتابه (نهاية التنوع في العراق) 2020 لبلورة مفهوم إقتصاد التنوع الديني كبديل لنموذج دولة اقتصاد الريع النفطي مصداقاً لهذه الرؤية.
يوفر هذا المعهد فرصة كبيرة لإختبار هذه الأفكار موفراً أمام صناع القرار، لا سيما في وزارات التعليم العالي والتربية والثقافة إمكانية توظيف ستراتيجية جديدة في (التعلم من التنوع) من خلال الاختلاط، فضلاً عن امكانية (التعلم عن التنوع) من خلال المناهج والتدريس المتوفرة في هذا المعهد. تمثل المجموعات المستهدفة في المعهد : طلاب الجامعات والعلوم الدينية في المؤسسات الدينية التقليدية والصحفيين والإعلاميين، وجاءت هذه المبادرة من أجل معالجة التطرّف والتمييز الديني، وفي مقدمتها الجهل بالآخر في مناهج المدارس والجامعات، والتي خلقت أرضية خصبة للقوالب النمطية الشائعة، عن الكيانات الدينية ، معتقداتهم، طقوسهم وحياتهم الاجتماعية، هذا بدوره يخلق بيئة لنشر التطرّف والكراهية والتمييز الديني الذي يعزز العنف والإبادة الجماعية بين المجتمع، لهذا فان أهم فائدة هذا المعهد أبرزها:
- نمنع ظهور أجيال جديدة من الإرهاب ونحن على أعتاب جيل خامس من التنظيمات الإرهابية بعد هزيمة داعش عسكرياً فقط.
- انها رأس المال الاقتصادي العراق، فهذا التنوع الديني يرتبط بستراتيجية اقتصادية وسياحية هائلة وهي بديل نوعي رابح بعيداً عن هبوط وانخفاض أسعار النفط.
- تعزيز ثقافة الهوية الوطنية وإظهار المعادل الحضاري والنوعي للتنوع باعتباره عامل الاستقرار والحاجز أمام المشاريع الانفصالية.
يجب أن نشيع ثقافة التنوع وأن يتعرف الجيل الحالي على هوياته الفرعية والتي هي مقدمة أساس في علم الاجتماع لمعرفة الهوية الوطنية الشاملة، وحان الوقت للإجابة على سؤال التحدي التاريخي المتأخر: من نحن؟ .