علاء المفرجي
في غمرة عطائه لا ينشغل المبدع في البحث بنظريات الإبداع ومفاهيمه مثلما لا ينشغل في البحث عن ماهية هذا الإبداع قدر انشغاله بما يبدع، وما يمثل إضافة نوعية للمعرفة الانسانية في كل مفاصلها.. فهو لا يحقق ذاته كما يقول يونغ.
ولكن قد يشغله أن يلم بأحد اشتراطات إريك فروم الخمسة ليكون مبدعاً، وهو حاجته الى التجاوز والتخطي وارتياد أماكن غير ماهولة.هو بحاجة إذن لتلمس مواطن الموهبة ليخلق أفكاراً جديدة واخرى مستحدثة ويبقى الناتج الابداعي للمبدع هو الأهم ويتكفل الآخر بما عداه رصداً وتقويماً.
الأمر هنا يتعلق بظاهرة مرضية في وسطنا الإبداعي خاصة (الشاب) منه، ويتمثل بتلك الضجة التي يثيرها المبدع (لاغيره) حول ما ينتج وحتى حول شخصه تحديداً. فبعضهم ما أن تمنح له وسائل النشر المتاحة مجالاً لنشر نتاجه الإبداعي، وقبل أن يتجاوز حصيلة هذا النتاج أصابع اليد الواحدة حتى يكافح لأن يطل من على (منبر)؛ يتحدث عن (تجربته) التي يعرف هو قبل غيره إنها ما زالت في طور النشوء والتبلور، ولم تستوفِ بعد خصوصيتها والأكثر من هذا هو سيل الأحاديث المسهبة بمناسبة أو بدونها في المنتديات والمقاهي عن المخاض العسير للفتح الإبداعي المرتقب، هذا فضلاً عن افتعال الخصومات والمعارك ونظرة الإزدراء والتعسفية لنتاج من سبقوه ورفض أبوّتهم بدافع (المغايرة) حيناً والإعلان عن الذات حيناً آخر.
والجانب الأخطر من هذه الظاهرة هو التهافت على وسائل الأعلام (بدل أن تسعى هي إليه) أو عقد الصفقات مع النقاد.
ومما يزيد من عمق وترسيخ هذه الظاهرة هو تبني (مؤسسات) ثقافية أو (معنية ) بالثقافة لها، وهو الأمر الذي يجعلها طبيعية ، وأن ما يمارسه هو حق طبيعي للمبدع من جهة الترويج لإبداعه ، وبالتالي تكون هذه المؤسسات طرفاً بانتشار هذه الظاهرة.
كل ذلك بدل السعي للانغماس في الاطلاع والقراءة وتمثل التجارب الثرّة لأساطين مجاله الإبداعي، والاهتمام بنوعية ما ينتج وتطويره بقناعة أن ما يخلد ويبقى هو الأثر الابداعي لا غيره.
اتذكر ما قاله مورياك مرة في أحد اللقاءات: (لقد انهك الناس أنفسهم في الكتابة عن حياة راسين من دون أن يتمكنوا من إثبات شيء لقد ضاع في بهاء إبداعه)..
فلم يكن فوكنر إذن على خطأ بقوله (ليس للفنان أهمية، إنما المهم هو ما يبدع).
"جيل يكتب أكثر مما يقرأ" هكذا أجاب طه حسين مرّة عن المشكلة التي يعيشها هذا الجيل، وبالتأكيد هو يتحدث عن جيل يعيش في عالم واسع ولم يكن قد أصبح بعد قرية صغيرة.. فلم يكن ذلك الجيل ينعم بكل هذا البذخ في وسائل التواصل الاجتماعي .. أو الاتصال، الذي وفر بدائل كبيرة وكثيرة عن القراءة، فقد حدثني أستاذ في كلية الآداب إنه سأل طلابه مرّة إن كانوا قد قرأوا (ملحمة كلكامش) فلم يتجاوز 40 طالباً مَن قرأ هذه الملحمة..
تُرى لو كان طه حسين يعيش في هذا العصر، فمالذي كان سيقوله؟!