إياد الصالحي
برغم الظروف الموجعة التي تتوالى علينا ما بين اجتياح وباء كورونا (كوفيد-19) أغلب مُدن العراق، وخسارتنا أعزّ الناس بسبب صعوبة توفّر مستلزمات القضاء على المرض لحداثته وقهره بلداناً عريقة في مجال الطب، وبين طموحات الشباب المُعلّقة على آمال الحكومة بتوفير أعمال تتناسب مع شهاداتهم العلمية،
وكذلك حاجة الانسان العراقي الى مزيدٍ من القوانين التي تؤمّن الحياة الهانئة له ولأولاده وأحفاده من غدر الزمان، وسط كل ذلك يهدر صوت نجم عالمي من خارج الحدود يتضامن مع العراق ويتشوّق لزيارته ويتمنّى السلام لأهله، كإني به يبعثُ السرور في القلوب المكلومة بالصدمات ..!
الحارس الأسطورة جان ماري بفاف (67 عاماً) أحد أشهر النجوم الذين مروّا في تاريخ الكرة البلجيكية والأوروبية، وأسهم في بلوغ بلده الدور نصف النهائي لأول مرّة في بطولة كأس العالم 1986 التي جرت في المكسيك، تلك البطولة التي لم يزل ذكرها شَهَداً في تاريخ الكرة العراقية وهي تتأهل أول مرّة في حدث عُدّ الأبرز في سجلات "الفيفا" حتى يومنا هذا، إذ لعب المنتخب الوطني جميع مبارياته العشرة في التصفيات خارج أرضه، وقبل أيام مرّت الذكرى 34 لتلك المشاركة المهمّة، وتناول عديد الزملاء في الصحف والتلفزة تقارير متنوعة استعادت صوراً ومعلومات قيّمة تضاف الى أرشيف أسود الرافدين كوثائق أمينة بيد جيل المستقبل.
كان بفاف من بين أهم الرياضيين الذين وثّقتُ لهم باستفاضة عن انطباعات شخصية ومواقف واعترافات خاصة ببطولة كأس العالم 1986، وكان اللقاء الأول معه على هامش بطولة كأس آسيا 2011 في قطر حيث أجريتُ مقابلة مطوّلة تحدّث فيها بغبطة ولأول مرّة للصحافة العربية عن الكرة العربية والعراقية على وجه التحديد، ورؤاه لمستقبل اللاعب العربي، وسُبل تطوير اللعبة، وعرّج عن المباراة الرسمية الأولى التي جمعت العراق مع بلده في مناسبة المونديال يوم الثامن من حزيران 1986 وانتهت لمصلحتهم بهدفين مقابل هدف واحد للهدّاف الكبير أحمد راضي وصفهُ بصدقية عالية، قائلاً: (لحظة دخول كرة راضي في الشباك شعرتُ بأنه دَغدغً حُباً جديداً في قلبي نحو العراق، ولم أحزن على هزّ الشباك بقدر فرحتي لرؤية آلاف المشجعين وهم يصفّقون بحرارة لإنجاز عراقي تاريخي كنتُ سبباً "من دون قصد" في تحقيقه). ونُشرتْ المقابلة في مجلة (حوار سبورت) وأعيد نشرها في صحيفة المدى يوم 11 أيار 2011.
مرّت السنين ولم يكن بيننا أي تواصل ما بعد ذلك اللقاء حتى عاود بفاف قبل أشهر عدّة للتواصل برسائل عبر الواتساب ردّاً على تفقّدي له، وكان وفياً بكل معنى الكلمة لقيمة الصداقة الإنسانية التي شهدتها الدوحة بلقاء صحفي ظلّ يتباهى به كلما مرّ الحديث عن العراق مثلما يؤكد في أغلب اتصالاته ورسائله، راغباً بزيارة العراق في ظرف مناسب لتحقيق أمنيته المؤجّلة بعدما فرضَ العراقيون المقيمون في وطنه انطباعاً مؤثراً عن عراقة بلاد الرافدين واستحقاق شعبه للعيش بسلام بين الأهل والأغراب.
قبيل اقتراب الذكرى 34 لمشاركة العراق في كأس العالم، عاودتُ توجيه السؤال لبفاف :هل ما تزال ذكرى تولوكا تشعرك بحرارة لقاء أسود الرافدين في ملعب نيميسيو دييز؟ أجاب بسرعة :نعم ..ليست الذكرى وحدها، بل اسم العراق عظيم وأفكر به على الدوام. قلت له :وماذا ستوجّه من كلمة للجمهور العراقي في هذ المناسبة؟ ردّ :سأبعث لك برسالة مرئية أمدها خمس دقائق أوجزُ فيها ما يتخالج في النفس نحو بلدك، وأرجو تعميمها عبر موقعك الشخصي في الفيسبوك ومنه الى عموم الأصدقاء الطيبين.
بعد أيام من هذه المحادثة، تسلّمتُ رسالة مهمّة من الصديق بفاف، أكد فيها أن الكرة العراقية بخير ولديها لاعبون محترفون مميّزون سيلعبون دوراً مؤثراً في نقل المنتخب العراقي لمصاف كبار الفرق، وكشف عن كيفية استعداد منتخبه لمواجهة العراق وإلقاء القبض عليه في المباراة! مُضمّناً في ختام مقطع الفيديو رسالة إنسانية باسم (عائلة بفاف) تؤكد على وحدة الشعب العراقي المحب للسلام وللاستقرار.
تحية لجان ماري بفاف، الأسطورة في الدفاع عن مرماه وعن أخلاقيات الشعور بالآخر سواء في محيط بلده أم خارجه، عملاً بمقولة الزعيم الروحي للهند مهاتما غاندي (يصبح الإنسان عظيماً تماماً بالقدر الذي يعمل فيه من أجل رعاية أخيه الإنسان).