طالب عبد العزيز
لسنا وحدنا، نحن الذين نحترف الكتابة، من يعتقد بانَّ مدناً كثيرة في العالم إنما تقرن اسماؤها باسماء كتّابها وشعرائها وفنانيها، وهناك يقين قاطع بان الزوّار والسائحين في العالم غالباً ما يقصدون المدن الجميلة والهامة بوحي وإغواء من كتب قرؤها،
فهذه دبلن التي لا يمكن فصلها عن يوليسس وجيمس جويس وهذه القاهرة التي لا تُدخل إلا عبر روايات نجيب محفوظ، وتلك باريس التي لا تُفهم إلا بقراءة سارتر وجمال بريجيت باردو وهناك براغ كافكا وكونديرا وما اسطنبول إلا حكاية في كتب اليف شافاق وباموك... وهكذا.
كنت قد مررت في مرسيليا ذات يوم من العام 2015 وفيها شعرت بالندم كثيراً، لأن الوقت لم يتح لي زيارة المستشفى التي دخلها رامبو سنة 1891 نعم، مررت بالميناء الذي رست فيه سفينته القادمة من الساحل العربي، ووقفت على لوح المرسى الخشبي، لمّا تزل تُسمع أصوات الحمالين الذين نقلوه، ثم أنني تذكرت مقبرة الحسن البصري، التي بهاجرة الزبير، حيث لا ظل ولا ماء هناك، تذكرتها وأنا أقف بين الشجر المتطاول يوم قرأت الشعر في مقبرة بول فاليري بمدينة سيت.
تبذل الدول المتقدمة وعبر شركات الإعلان والدعاية ملايين الدولارات من أجل تسويق مدينة ما وجعلها قبلة الزوار والسائحين، ومع أن سوريا ما زالت تئن من حربها التي طالت، إلا أن إحدى دور النشر الألمانية أجرت استفتاء موسعاً وجدت فيه أن دمشق تعد ثاني أهم المدن في روايات العالم، قبل بكين وباريس وبرلين حتى، والفضل في ذلك يعود الى رواية (الوجه المظلم للحب- لرفيق شامي) وهذا كافكا قد أضاف الى جسر براغ أو الجسر الحجري أسطورة أخرى للأساطيرالكثيرة التي تحكى عنه، وما الفارس برونتسفيك بسيفه المدفون في حجارة الجسر وكوكبة الفرسان الذين سيأتون معه إلا اللحظة المنتظرة لإنقاذ براغ من عدو مفترض أزلي.
يناشدني أحد الاصدقاء بأن أكتب شيئاً عن المعارك العشائرية التي تحدث في البصرة، عن البنادق والرصاص والفلتان الأمني، ويغضبني ما يطالعني وأراه على الشاشات من صور وأخبار عن المعارك تلك، صور الرجال الملثمين والمسلحين بمختلف الأسلحة تثير الرعب والفزع وتشمئز نفسي من منظر المسؤولين الأمنيين وهم يجلسون القرفصاء في مضايف شيوخ العشائر. الغريب أن اقتتال العشائر هذه تزامن مع زيارة وزيري الداخلية والدفاع للبصرة، وما مشهد قطع جماعة رفحاء لطريق الناصرية –البصرة باقل قبحاً من ذلك.
كنت، وفي واحدة من أحلام كثيرة أحلم بأن تشرع الحكومة المحلية في البصرة بجعل تمثال السياب علامة دالة على المدينة، ومن فؤاد التكرلي أو الجواهري علامة دالة على بغداد وهكذا الحال مع مدن عراقية أخرى، ليس بمعنى إقامة التمثال والعناية به، فهذا أمر مفروغ منه، انما تعريف المدينة من خلاله، وذلك بجعلها متساوقة بجمالها وأهميتها معه. هل لزائر البصرة أن يعقد قرينة ما بين ما كتبه بدر عن غابة النخل وعرائش الكروم وبويب وشناشيل ابنة الجلبي والمدينة بقبحها اليوم، برثاثة عشائرها التي تتقاتل؟