علي حسين
ما هي المسافة التي قطعها النظام الجديد في العراق خلال السبعة عشر سنة الماضية؟ ما هي نسب النمو والتطوّر والتقدم ، تثبت لنا تجارب الشعوب المدى الذي يمكن أن يصل اليه الفعل البشري، حين تتظافر الجهود والنيات الصادقة في بناء وتطور الأوطان.
أليس مذهلًا ومثيرًا، ونحن نقلب صفحات التاريخ، أن نجد رجلًا مثل دنغ شياو بينغ، خليفة ماو، يطلب مساعدة زعيم دولة في حجم سنغافورة، لنقل تجربتها إلى الصين؟ سنفاجأ، أن بنغ كان يذهب بنفسه سرًا للقاء لي كوان ليطلب مشورته، ونعرف، أن التحول الصيني، الذي قد يصبح أهم حدث في التاريخ المعاصر، كان من عمل رجلين ماركسيين. أحدهما زعيم أكبر حزب شيوعي، والثاني كان ينتمي إلى جناح ماركسي في جنوبي سنغافورة. يقول دنغ "إذا أردت أن تعبر النهر عليك أن تتحسس الأحجار التي في أعماقة كي تتمكن من العبور بأمان". تقوم تجارب الشعوب الناجحة على نكران الذات والمشاركة الفاعلة في بناء البلاد وصدق المشاعر الإنسانية، فيما تقوم تجارب الأنظمة الفاشلة على الجروح التي تتركها على جسد الوطن.
قبل 50 عامًا نفى ديغول نفسه إلى قرية في الجنوب كي يكون بعيدًا عن مجرى الأحداث التي عصفت بالبلاد عام 1968، فقبلها حاول حل الأزمة باقتراح إصلاحات، داعيًا الشعب الفرنسي إلى استفتاء عليها، مؤكدًا أنه سيستقيل من منصبه إذا لم يوافق الشعب على تلك الإصلاحات. وقد جرى ذلك الاستفتاء، وكانت نتيجته سقوط الاقتراحات، ووفى ديغول بوعده فاستقال في اليوم التالي، لتبقى منزلته في عقول الآخرين، منزلة الوفاء للسياسي والأخلاقي والعسكري الذي لم يطلق رصاصة واحدة في وجه معارضيه. كم بدا غريبًا أن نقرأ عن رجل ظل يقدس حياة العائلة، يكتب من منفاه الاختياري الرسائل إلى أحفاده يوصيهم، "لا شيء أهم من فرنسا مستقرة"، هناك لا يملك أكثر من ثمن منديل يهديه إلى زوجته، حيث يزوره طبيب القرية ويمازح الفلاحين حول محاصيلهم، ويجلس ليكتب، أهم ما خطه سياسي في التاريخ، مذكراته التي أسماها "مذكرات الأمل"، الأمل بفرنسا أكثر تطورًا وازدهارًا وعافية، برغم جحودها مع الرجل العجوز. كان ديغول محاطًا بالكاتبين أندريه مالرو وفرنسوا مورياك. ولكن في الخارج كان كاتب آخر يكيل النقد لسيد الإليزيه، فما انفك سارتر يحارب ديغول ويسخر منه، مواجهة حادة بين عبقرية الفكر وعبقرية السياسة، كان فيها ديغول يحترم سارتر وحين أصبح الأخير رمزًا يلهب مشاعر الطلبة ويقود أعنف التظاهرات وحين امتلأت صحف فرنسا بصور سارتر يوزع المنشورات ضد نظام الحكم، طالب عدد من القادة الأمنيين والوزراء بسجنه، رد عليهم ديغول، بعبارته الشهيرة "لا أحد يسجن فولتير، هل يمكن أن نضع فرنسا في السجن؟" .