TOP

جريدة المدى > سينما > مرايا الشتات.. تحولات فنانين بعد غربة ربع قرن

مرايا الشتات.. تحولات فنانين بعد غربة ربع قرن

نشر في: 24 يونيو, 2020: 06:14 م

هادي ياسين علي

هذا فيلم وثائقيٌ من طراز خاص ، يحمل بصمة مخرج عراقي مختلف ، هو الفنان " قاسم عبد " . حاصل على شهادة الدبلوم من معهد الفنون الجميلة في بغداد و شهادة الماجستير من معهد غراسيموف للسينما في موسكو ،

معهدٌ يُعد مدرسةً متفردة في تخريج السينمائيين الحرفيين الفاعلين . و " قاسم عبد " يشتغل وفق تسمية ( سينما المؤلف ) ، أي سينما فريق العمل المُتمثل بشخصٍ واحد ، فهو ممسكٌ بالأطراف الأربعة للصنعة السينمائية : الإخراج ، التصوير ، المونتاج ، الإنتاج ، رفقةَ موهبةٍ و رؤيةٍ سينمائيةٍ عاليةِ الحساسية ، اللتين من دونهما تبقى تلك الأطراف الأربعة مجرد مُسمّياتٍ بلا قيمة .

لـ " قاسم عبد " إيقاعٌ خاصٌ في المهرجانات السينمائية ، في بريطانيا ـ التي يعيش فيها منذ العام 1982 ـ و آلمانيا و أميركا و فرنسا و غيرها ، و هو حاصلٌ على جوائز و تكريمات و يحظى بإهتمام و إشادة النقاد و مشاهدي أفلامه ، و يكاد يؤسس فـَهماً جديداً لمعنى الأفلام الوثائقية ، يحمل بصمة " قاسم عبد " من خلال مزج السينمائي بين الوثائقي و الدرامي .

كان المخرجُ قد أخرج عام 1990 فيلماً وثائقياً بعنوان ( وسط حقول الذرة الغريبة ) عن مجموعةٍ من الفنانين التشكيليين العراقيين ، المقيمين في إيطاليا ، هم زملاء دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد . بعد التخرج هاجروا الى إيطاليا لدراسة الفن التشكيلي ، فيما توجه هو الى موسكو لدراسة فن السينما . الفنانة " عفيفة لعيبي " ، التي تظهر في الفيلمين ، غادرت الى موسكو أيضاً لدراسة الفن التشكيلي ( تخصُّص جداريات ) لتذهب الى إيطاليا لاحقاً ، و من ثم الى اليمن الجنوبية ( سابقاً ) ، حيث النظام الماركسي ، ثم لتعود الى إيطاليا . في ذلك الوقت كانت سلطة حزب البعث العراقي قد كشرت عن أنيابها ، فشعر الفنانون و المثقفون اليساريون ، و حتى بعض المستقلين ، أن الخطر يحدق بهم و باتوا على وشك أن يصبحوا لقمةً سائغة بين فكي النظام المفترس ، خصوصاً بعد موجة الإعتقالات و الإعدامات ، التي تلت الحروب ، فكانت الهجرة بإتجاه الشتات .

في موسكو كان " قاسم عبد " قد درس فن التصوير ، و واضحٌ أنه قد برع و إجتهد في هذا التخصص ، كما تشي بذلك أفلامه . و كما أخبرني أحد زملائه في موسكو ، الفنان " بهجت صبري " ، أنه منذ البداية كان مَيّالاً الى الإخراج . لذك نجده قد أخرج أفلاماً وثائقية مثل : ( همس المدن ) و ( الحياة بعد السقوط ) و ( وسط حقول الذرة الغريبة ) و ( مرايا الشتات ) و فيلمٍ آخر عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني " ناجي العلي " . و تشي طريقة " ، قاسم عبد " في إخراج الفيلم الوثائقي ، خصوصاً فيلم ( مرايا الشتات ) ، تمهيد لمشروع مخرج أفلام روائية ، ذلك أن فيلمه هذا بقدْر ما هو فيلمٌ وثائقي ، فهو ينطوي على نَفَسٍ درامي من حيث السيناريو و التصوير و المونتاج و الإخراج .

قبل مشاهدة فيلم ( مرايا الشتات ) ـ 88 دقيقة ـ من المهم مشاهدة فيلم ( في حقول الذرة الغريبة ) ـ 1990 ، ذلك أن ( مرايا الشتات ) إن هو إلا متابعةٌ لما آل اليه ـ بعد 28 عاماً ـ حالُ زملاء المخرج الفنانين التشكيليين الذين كانوا مقيمين في إيطاليا ، لذلك عمد المخرج الى تطعيم فيلمه الجديد بلقطات من الفيلم السابق . و في الفيلم الجديد سنكتشف أن نصفهم قد غادر إيطاليا ( " عفيفة لعيبي " و " بلادين أحمد " الى هولندا ) و ( " كاظم الداخل " الى السويد ) . و خلال هذه الأعوام الطويلة من الغربة و الترقب فأن الرؤية السياسية لديهم قد بدأت تنحاز الى التروي ، على الرغم من عدم بوحهم بذلك ، فالمتغيرات السياسية الدولية بعد سقوط الإتحاد السوفيتي السابق عام 1989 حولت ( اليسار السياسي ) الى حلم ضائع في المتاهة و لم يعد سوى عنوان تذكاري . لذلك سنجد أن لغة الفنانين في فيلم ( مرايا الشتات ) تختلف عنها في فيلم ( حقل الذرة الغريبة ) ، و عنوان الفيلم الجديد أشد قرباً من الواقع الجديد . في الفيلم الجديد ثمة نضج للأفكار لدى هؤلاء الفنانين ، ثمة تروٍّ و تبصُّر ، ثمة تخلٍّ عن الرومانسية في الفكر اليساري ، و ثمة تفرغ كُلي للفن ، و ثمة إعتراف غير مُعلن عن وهم سياسي شتّت دروب هؤلاء الفنانين الرائعين ، و ربما خلق لهم عداءات مع فنانين تشكيليين عراقيين آخرين غير ملتزمين سياسياً ( كما أخبرني أكثر من واحدٍ منهم ) .

تطور الخطاب الثقافي أو الفكري لدى هؤلاء الفنانين في فيلم ( مرايا الشتات ) قادهم الى تقدم الخطاب الفني البصري ، و بالتالي إلقائهم الخطاب السياسي خلف ظهورهم . في فيلم ( مرايا الشتات ) نجدهم متفرغين لحياتهم الشخصية ، و قد باتوا على أعتاب الشيخوخة .

كلا الفيلمين جميلان و يبعثان على المتعة ، ولكن ( مرايا الشتات ) أكثر تقدماً بحكم مراس و تجربة المخرج الذي أرفق فيلميه بموسيقىً متنوعة مختارة بدقة و متناسبة ، و في كلا الفيلمين ، يختار المخرج قطعة موسيقية قصيرة من مقطوعة ( الربيع ) من سمفونية ( الفصول الأربعة Four Seasons) للإيطالي " فيفالدي" ( 1678 ـ 1741 ) .

في فيلم ( مرايا الشتات ) نجد انتقالة باهرة في التصوير ، الذي هو تخصص المخرج الأكاديمي ، نجد اللقطة العريضة ، و زوايا بالغة الدقة في الإنتقاء ، و تحمل نَفَس الفيلم الروائي السينمائي ، فتقدم لنا متعةً بصرية كبيرة . و في كلا الفيلمين يعبر الفنانون عن حنينهم الى العراق ولكنهم يتفقون على أن النظام الدكتاتوري في عهد البعث ، تحديداً في النصف الثاني من السبعينيات ، هو الذي دفعهم الى الهجرة ، و إذ كانوا يأملون خيراً في التغيير الذي حصل عام 2003 فقد صُدموا ـ كما جميع العراقيين في الداخل و الخارج ـ ببشاعة نظام الحكم الذي جاء بعد هذا التغيير ، فباتت عودتهم الى العراق ضرباً من المستحيل بعد أن تكيفت حياتهم مع النظام الإجتماعي و الثقافي في أوروبا طَوال أكثر من 40 عاماً ، لذلك باتوا على قناعة مطلقة بأن الوطن هو المكان الذي تتوفر فيه الحرية و تُصان فيه كرامة الإنسان و تُحترمُ آدميتُه و حيث يتوفر المناخ المناسب للإنتاج الفني . و بالنسبة إليهم كفنانين ، بات العراق وطناً سابقاً يحتفظون منه بذكريات الطفولة و الصِبا و الشباب قبل أن يهاجروا الى بلدان الشتات . تقول " عفيفة لعيبي " : ( أنا لم أرفض العراق ، العراق هو الذي رفضني ) ، و هي عبارةٌ توجع القلب حقاً .

" قاسم عبد " في فيلم ( مرايا الشتات ) لا يقدم رسالة وفاء لزملائه و رفاقه حسب ، بل يقدم درساً أخلاقياً و فنياً في كيفية توثيق الشتات العراقي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. حسين ثامر بداي

    هادي ياسين كاتب وفنان مبدع ومتميز يضع الأشياء في محلها ويحللها بعمق العارف لصنعته تحيه له من القلب

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram