TOP

جريدة المدى > عام > جدل الثنائيات في شعر مجاهد أبو الهيل

جدل الثنائيات في شعر مجاهد أبو الهيل

نشر في: 4 يوليو, 2020: 06:55 م

كمال عبد الرحمن 

تحقق الثنائيات المتنافرة تخلخلاً واضحاً في بنية النص،و تعد بنية التضاد إحدى البنيات الأسلوبية التي تغني النص الشعري بالتوتر ، والعمق والإثارة ،

وتقوم هذه البنية على الجدل ( الديالكتيك ) الذي يعني وجود حالة تناقض وصراع وتقابل بين أطراف الصورة الشعرية ، وغالبا ماتشتغل على شكل ثنائيات ضدية ، وهي العنصر الأكثر أهمية بين مكونات النص الشعري .

إن التنافرات والتصادمات في تشكيل النص تسجل ردود أفعال لدى القارئ ، وتمثل التضادات نقطة فراغ دلالي يحتاج إلى ملئها ، لأن سيكون ضائقة لم يعهدها القارئ ، فيبحث عن كيفية تحقق التلاقي أو التلاقح الدلالي .

ترتبط لذة النص في رؤية ( بارت ) بالانقطاعات ، كأنْ تلتقي المتنافرات ، وهذا أيضاً يلتقي مع الشاعر مجاهد أبو الهيل ، لأنه اجتهد في الثنائيات الضدية المبنية وفق التنافر و (( المنافرة تعتبر خرقا لقانون الكلام ، إنها تتحقق على المستوى السياقي )) .

إن اشتغال الشاعر أبو الهيل داخل اللغة بالغ الأهمية ، إذ (( استطاع أن يشق لنفسه لغة خاصة )) والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه ، وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها :

((حزُننا فرحٌ طائر في المرايا/ وجعٌ كل أحلامنا/ نتماسك حين يهب علينا/ أمل ٌعابرٌ/ خوف أن يزعل اليأسُ))

وواضحة ههنا بنية التضاد : (حزننا)( فرح)... (يأس)(أمل)

ومثلما تشتغل قصيدة الشاعر على التضاد ، كذلك تشتغل على جدليات كثيرة منها ، جدلية المفارقة ، والمفارقة كما يقول ( جوته ) : (( هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق ))، أو كما يقول ( كيركيكارد ) عنها : (( ليس من فلسفة حقيقية ممكنة من دون شك ، كما يدعي الفلاسفة ، كذلك قد يدعي المرء أن ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة )) ، وخلاصة القول إن الأدب الجيد جميعا يجب أن يتصف بالمفارقة . 

والمفارقة في شعر أبو الهيل عامة وفي قصيدته هذه بخاصة تأخذ أشكالاً عدة ، منها (مفارقة التنافر ) :

(( نستغفر الله/ ربنا قد ضحكنا/ فلا تجعل الحزنَ في غيرنا/ سوف نحزن))

وواضحة هنا المفارقة السائدة في مجتمعاتنا ( لاتضحك حتى لاتحزن )، وهي مفرقة تقوم على نوع من الجهل والخرافة أحياناً، أما بالنسبة لمعتقداتنا التي تأمر بعدم الاسراف في الضحك فهو من باب الأدب والأخلاق السامية، ويبدو أن المفردات المؤلفة لبنية التضاد في النص ، تعمل على انجاز مفارقة دلالية وصورية فيما بينها ، عبر عنصر الصراع الذي يحصل عادة بين المتضادات ، فـ (( بما أن الكلمات المتضادة تصر دائما على إقصاء بعضها البعض ، فإنها تصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة التي توهم ببنية مفتوحة مستحيلة الإنهاء وذات نهاية اعتباطية )) ، وهذه النهايات تعمل على مضاعفة طاقة الأداء الأسلوبي المنتج لجماليات القصيدة:

(( أنا شاعرٌ يغفرُ أخطاءَ كل النساء/ فاغفري خطأي/ سامحي القلبَ/ فهو لا يُخطئُ في الحب/ لكنهُ يُخطئُ الاختيار ))

إن التضاد بصيغه المتعددة يمثل أسلوباً يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته ، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد فيما بينها ، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه .، ويحلق في فضاء جمالي خاص ، ويحرضه على الحوار والتفاعل ، وإعادة إنتاج المعنى ، إذ (( ليس هناك نص أدبي لايخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملأها )) .

كما أن التضاد من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى .

إن ظاهرة جمع المتنافرات نجدها عند شعراء الشعر الحديث وحتى القديم ، إلا أنها تتكرر عند الشاعر مجاهد أبو الهيل في قصيدته هذه وتكاد تكون سمة غالبة ، ووفق آليات مغايرة لآليات الشعراء الآخرين ، ومن بينها الدخول مع الطبيعة والأشياء في تبادل الممارسات (( فتؤنسن الأشياء ويشيّء الإنسان )) .

ويختصر الشاعر أبو الهيل مشروعه في اللغة الشعرية ، حيث يفتش عن لذة ( البحث في المحرمات = التأبو السياسي + التأبو الاجتماعي ) وتصنيع الأسئلة الممنوعة أو المحظورة في اقل تقدير :

(( سحنتي غيّرتْ كلَ ألوانها/ لم اعُدْ حافياً مثلما كنتُ في قريةٍ من طحينْ/ لم أعُدْ اسمراً/ مثل أبنائها الطيبينْ/ لم تَعُدْ لغتي تتعثر بي حين تحملُني للمدينة/ وشفاهي التي ارتجفتْ))

وتكتنز هذه القصيدة ــ على الرغم من قصرها ـــــ بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في االنص ، ففيها تتضاد الثنائيات لتلتقي وتثير شهوة القراءة ، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده ، فمن تداخل الليل والنهار يولد الفجر ، الذي هو ليس ليلا ولانهارا .

وحين يقول كوهين : إن (( الشعر يولد من المنافرة ))، فان المنافرة لها القدرة على نوع من الدراما المتطورة في النص ، حتى يصل تأثيرها إلى صناعة الإيقاع الداخلي للقصيدة ، وهي– المنافرة – شرط من توفر هذا الإيقاع:

(( أتدرين أني أحبك/ يومَ وُلدتِ/ ويوم تموتُ النجومُ جميعاً/ وتبقين انتِ/ ويذبلُ في النهر/ وجهُ القمرْ/ وتبقى عيونُكِ ضوءاً تشع))

وواضح ههنا تشكيل الإيقاع الداخلي للقصيدة ، من خلال :

• تكرار حرف الراء( 5 مرات ) .

• يوم ولدت = (حياة) ويوم تموت النجوم = ( موت) .

• وتبقين انت =( ثبات) ويذبل وجه القمر = ( زوال) ، وكذلك (يذبل وجه القمر) و ( تبقى عيونك ضوءا يشع).

ف ( الولادة) = بعث، وجود ، كينونة

و ( الموت) = فناء ، زوال، نسيان

وكذلك (يذبل) = شحوب ، ضعف ، عتمة

أما ( يشع) = ضوء ، جمال ، حيوية

فلا يقتصر الإيقاع الداخلي في النص الشعري على العروض ، واعني الوزن والقافية ، وإنما ثمة موسيقى أخرى ، تنبع من أعماق هذا النص من خلال العلاقات التي تربط بين عناصره أو تكويناتها الداخلية، وينشا هذا الإيقاع من خصوصية اللغة الشعرية ، المشحونة بالدهشة وصور التضاد والمفارقة والتوتر الذي ينبثق من المناخ الدرامي للنص الشعري . 

لقد حددت اللغة مسميات الأشياء فاتضح العالم للوعي البشري ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى اللغة تحقق الذات والآخر بالحوار ، مع الحداثة الشعرية التقت الجهتان ، ودخلت اللغة في حوار مع الأشياء التي لها لغة لايفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز ، فيدخل هذا الإنسان في حوار مع العالم بكل مظاهره ، وبذلك يتحقق الحوار بين الإنسان والوجود.

يطرح الشاعر مجاهد أبو الهيل العديد من الأسئلة في قصيدته هذه، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة ، ولكنها أسئلة مساءلة ، لاتقف عند حدود الطرح ، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم :

(( سنمشي في جنائز قتلانا/ قتلنا ما يُسمى الامس/ لم نولد/ ولم نعشق / نسينا أنّنا كنا بحضن الريح/ فالأنهارُ صامتة ستصغي/ لحكاية/ قد بدأتْ حكايتُنا/ سنروي قصة الليمون للأنهار/ نروي كلَ شيءٍ))

فهل يعيد الشاعر مجاهد أبو الهيل على مسامعنا المثل الذي يقول:

(( الشعراء مشرعو العصر ))

إن هذه القصائد مليئة بالتضادات والمفارقات والأسئلة والجدليات ، نصوص مساءلة يطلقها الشاعر من كل مقطع أو جملة أو كلمة ، ثورة شعرية خاصة تقوم في بنية النص أساسها التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة ، وهذه (( المخالفة تغدو فاعلية أساسية يتلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه )) والشاعر هنا مطالب بلغة مبتكرة ، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم ، إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات . 

إن قصائد الشاعر أبو الهيل هي من القصائد الذكية التي يتمتع شاعرها بمخيلة مبدعة وثقافة واسعة ووعي كبير ، فقد نجح الشاعر أبو الهيل في تأسيس نصوص شعرية تقوم بنيتها على التضاد وما يؤسسه من خلخلة وصراع ومفارقات داخل القصائد وتطوير بنيتها فنجح في ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يدرس زيادة عدد منتخبات كأس العالم

بريطانيا ترفع 24 جهة من قائمة العقوبات على سوريا

العراق يترقب أمطارا غزيرة تستمر للأسبوع المقبل

وزير الإعمار: نصف مساحة العراق خارج خدمات الصرف الصحي

منفذ طريبيل يمنع دخول 2000 رأس غنم مصابة بأمراض معدية إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram