عدي مانع
الكتابة عن الأفلام عمل ليس سهلاً، و لكن البوح في حرم الجمالِ جمالُ. فبعض الجمال لا يحتمل الصمت، و العاشق للسينما لا يقوى على الصمت في حضرة سينما قاسم عبد ..
ففي مرايا الشتات كانت كاميرة قاسم عبد كفرشاة رسم جريحة بالحنين أيضاً ترسم بألوان الألم و اللوعة لوحة سينمائية في غاية الجمال، تنقلت بنا على دراجة هوائية من أزمنة و أمكنة مختلفة، تتبعت خريطة ظلال راكبيها على شوارع إسفلتية لا تشعر بالحنين إلا لمزيد من فاقدي الأوطان، مرايا الشتات لوحة سينمائية شاعرية بقوافي سماوات بلاد الغربة الجميلة فقد تخطت سماء الوطن التي تحولت الى معرض بشع شوهته لوحات الجلادين و السفاحين المؤطرة بالحرمان و الدم.. قاسم عبد لم يبتعد عن الذاتية في الطرح و الأسلوب، يسرد بدفء قصص سبعة فنانين فرّقهم وطن قاسٍ و جمعتهم غربة حنينة، الإحساس كان نابضاً كقلب يضخ الفن كما الدماء في عروق لقطات الفيلم، ليصور لنا سبع نجوم من عالم الفن التشكيلي العراقي كل واحد منهم يحلق بنا في عالم روحي مغاير، يجعل المتلقي يشعر برعشة الغربة الجميلة في لحظات الاشتياق الى الوطن الأول، الوطن الذي خذلهم جميعاً.
اللقطات التي صوّرت قبل ربع قرن و كأنها كانت ترسم بداية ملامح الغربة من الغرف و الأزقة و الشوارع و محطات الترحال، دون أن نشعر أنها لقطات صورت قديماً أو ارشيفية، فقد تحولت المسافة الزمنية بين اللقطات الى مسافات شاعرية أنيقة منحت السرد الصوري قوة و أصالة، و اثبتت لنا أن الفنان العراقي الحقيقي لا يتغير و لا يحيد عن موقفه السياسي و رهافة حسه و إنسانيته، حتى شعرنا إنهم شخصيات رسمت بذات الفرشاة و الألوان في لوحة فنية واحدة، ذالك التجانس العذب الذي مزج بين الفن و الفنان و بين المتلقي و المرسل، و الزمن الواقعي و الفيلمي.
شخصيات شاعرية هادئة طموح تشبه أدوات و مفردات فنها، فهي صلبة صلابة البرونز، و رقة كأس النبيذ، و دفء ألوان لوحة الأمّ و قسوة كرسي الإعدام، تنقل الفيلم بين العوالم و المشاعر المختلفة منحه قوة قل نظيرها في فيلم يتناول سبع شخصيات مهمة في تاريخ العراق المعاصر..
(عفيفة لعيبي، جبر علوان، رسمي الخفاجي،علي عساف، فؤاد علي عزيز، كاظم الداخل، بالدين أحمد)
سبع شخصيات أو سبعة محاربين ليسوا ساموراي، و لكنهم لا يقلون صلابة عن محاربي "كورساوا" المبارزين في الساموراي السبعة، فمحاربو قاسم عبد فنانون مرهفو الحس واعون بسبب حملهم مبادئهم و عشقهم لوطنهم دون شرط أو ثمن لما يمنحون مما يملكون لأجل وطنهم أو ذكرياتهم، ففي أعمالهم حضور دائم للعراق و الإنسان و الحب و الجمال.
لا توجد في الفيلم مساحات مقسمة لسرد قصة كل فنان من الفنانين السبعة، فالقصة كانت واحدة سردت على لسان الفنانين- الشخوص رغم تنوع الخلفيات التي ينتمي لها الفنانون، في عدسة قاسم عبد توحّدت الخلفيات و ضبط بؤرتها على الفنان العراقي. فإبن الجنوب و ابن الشمال و الشرق و الغرب كانوا متشابهين جداً، مثل الظل الذي ينعكس على إسفلت شوارع الغربة بالكاد أن نعرف صاحبة، و هذا هو الموتيف أو الدالة في تصوير الظل، التي استخدمها قاسم عبد كانت كافية لتؤكد التشابه و التوحّد و التجرد تحت شمس سماوات أوطان الغربة، من السويد الى هولندا الى إيطاليا، كأنه يعيد تذكيرنا بإنهم جاءوا من مناطق مختلفة من أرض الوطن و جمعتهم مناطق مختلفة من أرض الغربة و لكنهم استمروا عراقيين و استمروا أنقياء، و كل كفاحهم فن و عطاء.
خيبات و خذلان الوطن الذي زاد من ألم و وجع الغربة بعد انتظار سنوات لسقوط حكم دكتاتوري دموي، تأتي الصدمات على أبطال الفيلم فتزيد جرحهم ألماً بتسلط نظام محاصصاتي طائفي، لا يقل همجية و عنفاً عن نظام الدكتاتور، في تلك اللحظة نشعر بتشظي المرايا و تهشم الحلم بالعودة لأرض الوطن.. و كيف تحكم الغربة على فنانيها كوطن بديل.
مرايا الشتات هو اللوحة التي رسمها قاسم عبد مصوراً أحاسيس و مشاعر جياشة لمحاربيه السبعة الذين ظلوا لسنوات يحاربون البرابرة و الهمج الذين أرادوا السوء بوطن تربوا و صنعوا ذكرياتهم الاولى فيه.. فسقط الدكتاتور و أحرقت صوره و هدمت تماثيله بينما بقيت لوحاتهم و تماثيلهم شاهدة الى قوة و شجاعة انتصارهم و إن لم يتوج بالعودة، و لأن قاسم عبد يغلق كاميرته على صوت أحد محاربيه السبعة و هو يدعو الفنانين لمواجهة خراب برابرة الفساد و الإرهاب، فهذه إشارة لاستمرار الفنانين السبعة بنضالهم الفني من أجل وطنهم و شعبهم و ذكرياتهم.
فشكراً للغربة التي صنعت كل هذا الجمال العراقي و شكراً لأستاذي قاسم عبد على كل هذا الجمال.