د. قاسم حسين صالح
أن تكتب عن علي الوردي في يوم رحيله،فهذا يعني أن تنصف الرجل في علمه وشخصه..وكنت فعلت بمقالات في (المدى والأسبوعية والعرب والحوار المتمدن والمثقف)،واهداء له تصدر كتابي الشخصية العراقية..وسأفعل هنا أيضاً ولكن سأشير الى قضية خلافية منطلقا من حقيقة..لا مجاملة في العلم.
تعود علاقتي بالدكتور علي الوردي إلى عام " 1989 ". ففي تلك السنة كان على رأس وزارة التعليم العالي وزير مثقف بثقافة فرنسية محب للأدب والثقافة والفلسفة، هو الدكتور منذر الشاوي.وكان من نشاطاته الثقافية أن أصدر جريدة رصينة باسم " الجامعة "،المؤسسون لها ستة بينهم: الدكتور ياس خضر ، حسب الله يحيى ،الدكتور فجر جوده،الدكتور منذر الخطيب ، وأنا مسؤول " الصفحة الأخيرة ".
وكنت خططت لاجراء حوارات مع الرموز العلمية والثقافية لأعمل أرشيفاً لمفكّري العراق ومبدعيه،فبدأت بأول وزيرة للتعليم العالي الدكتورة سعاد إسماعيل وزرتها في بيتها على نهر دجلة قريباً من الصليخ. وكان هدفي الثاني هو الوردي الذي زرته بداره الواقعة خلف إعدادية الحريري للبنات في الأعظمية،وأجريت معه حواراً نشر المسموح به في حينه مع صورة كاريكاتيرية بريشة الفنان "علي المندلاوي".وسألني عن باقي الحوار، فأجبته: " إذا نشر يا دكتور فسيكون طريقك لبو زعبل"، فرد مازحا" :" والله إذا أنا وأنت سوا..يا محلاها ". وتطورت العلاقة إلى صداقة وزيارات في بيته.
كنت أحرص أن أدعوه لكل ندوة علمية يوم كنت خبيراً بمركزالدراسات بوزارة الداخلية .ففي الدراسة الميدانية بعنوان:(البغاء..أسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي)والتي تعدّ الأولى من نوعها في العراق والعالم العربي من حيث نوعية أدوات البحث والاختبارات النفسية،وعدد البغايا والسمسيرات( 300 بينهن من لها علاقة بمسؤولين كبار!)،أتيت بالوردي وأجلسته في الصف الأول في ندوة دعت لها وزارة الداخلية ضمت أكاديميين وقضاة. وحين انتهت الندوة مد يده نحوي وسحبني (على صفحة )وقال:
" دراستك هاي عن " البغايا " تذكرني بحادثة ظريفة. في الأربعينيات ناقشت الحكومة موضوع فتح مبغى عام في بغداد،وعقدت لقاءً ضم كلاّ من الوصي ونوري سعيد ووزير الداخلية ووزير الصحة ومدير الأمن العام. فاتفقوا على الفكرة لكنهم اختلفوا على المكان ،بين الباب الشرقي وساحة الميدان. وكان بين الحاضرين شخص مصّلاوي يجيد فن "النكتة" فقال لهم :إن افضل مكان للمبغى هو الميدان والما يصدّق خل يروح يسأل أمّه ! ".
ضحكنا..وخاطبت عيناه عينيّ بتعليق:ماذا لو قالها أحدهم اليوم! لأفرغ مسدسه في قائلها والمبتسمين، فيما الوصي ونوري السعيد ووزير داخليته ومدير أمنه العام..استلقوا على ظهورهم من الضحك!.
والوردي يجيد فن اختيارعنوان موضوعه ويعرف فن استخدام مقولة(العنوان ثريا النص)،فحين سألته عن بدايات حياته اختصر الاجابة بعنوان:(من الحمير..الى الجامبو!)..مبيناً انه كان في بداية حياته يسافر على ظهور الحمير ثم اتيح له ان يسافر بطائرة الجمبو..وختم جوابه بأنه كان في صباه صانع عطّار براتب شهري قدره خمس روبيات (ثم صرت الآن مؤلفاً اتحذلق على الناس بأقاويل لا يفهمونها..وأطلب منهم أن يفهموها(!.
والوردي كاتب ساخر بأسلوب بسيط ولطيف،وهذا هو الذي مكّنه أن يكون مشهوراً بين العامة.ومن سخرياته الموجعة أن أقيم له قبيل أن يموت حفل تكريمي (شكلي) فبعث ابنه وقال من على المنصة: يبدو أن والدي لا يكف عن المزاح حتى وهو على فراش المرض..فقد كلفني أن أنقل لكم بيتاً واحدا" من الشعر : جاءت وحياض الموت مترعة...وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل )!.
والوردي واحد من أبرز علماء العراق في النصف الثاني من القرن العشرين،تجاوز تأثيره حدود النخبة الى الناس العاديين،وتعدت شهرته حدود الوطن والعرب الى العالمية،يكفينا أن نستشهد بمقولة البروفسور جاك بيرك الذي وصف الوردي بأنه (كاتب يحلّق الى العالمية بأسلوبه الذي يضرب في المناطق الحساسة في المجتمع كفولتير).
الخطأ العلمي في ..ازدواج الشخصية
أشاع الوردي مفهوم (ازدواج الشخصية ) في الفرد العراقي قبل سبعين سنة متأثراً بشيوع المفهوم عبر أفلام السينما والصحافة الفنية والقصص في خمسينيات القرن الماضي، وسط استغراب الناس ودهشتهم..أن يحصل مثل هذا للإنسان ، وربما خشيتهم على أنفسهم أن يصيب أحدهم ما أصاب الدكتور جيكل في رواية ستيفنسن (دكتور جيكل ومستر هايد ) التي تحولت الى فيلم ،أو أن تصاب إحداهن ما أصاب الفتاة (سيبل) وهي حالة واقعية لفتاة ظهرت في اميركا بخمسينيات القرن الماضي كانت لها ثلاث شخصيات : شخصية عادية ، موظفة تمارس عملها حسب الأصول ، وشخصية متدينة تذهب الى الكنيسة في أيام الآحاد ، وشخصية مستهترة ترتاد نوادي الرقص والقمار في الليل. وكان لكل شخصية أسم خاص بها ولا تعرف إحداهن الأخرى. ولأن الحالة مثيرة فقد التقطتها هوليوود وحولتها الى فلم بعنوان " ثلاثة وجوه لحواء ، Three Faces of Eve" عرض عام 1957وقامت ببطولته الممثلة Joanne Woodward .
وليت الوردي استخدم المفهوم مجازاً أو استعارة إنما استخدمه بنفس المعنى الشائع لمرض ازدواج الشخصية في الخمسينيات. فهو يقول بالنص :" إن العراقي هو في الواقع ذو شخصيتين ، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى..وإنه إذا بدر منه بعدئذ عكس ذلك فمردّه الى ظهور نفوس أخرى فيه ( لاحظ هنا تعدد وليس ازدواج ) لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فعلت ). وواضح لجنابك أن الوصف هذا ينطبق على حالة مرضية وليس على حالة سوية، بمعنى أن المصاب به يعاني من اضطراب أو مرض ( ازدواج الشخصية ) بمفهومه الشائع في الخمسينيات،و" اضطراب الهوية الانشطاري " بالمفهوم الحديث..وليس من المعقول بطبيعة الحال أن يكون كل أو معظم العراقيين مصابين بهذا الاضطراب العصابي ، أو المرض الذهاني على رأي آخر .
إن الذي قصده الوردي هو على وجه التحديد:( التناقض بين الأفكار والسلوك )، بمعنى أن السلوك الذي يتصرف به الفرد يتناقض أو يتعارض مع الفكرة أو القيمة التي يحملها، وإليك بعض الأمثلة مما يذكر :
" إن العراقي ، سامحه الله ، أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته ، ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته ".
" حدث مرة أن أقيمت حفلة كبرى في بغداد للدعوة الى مقاطعة البضاعة الأجنبية، وقد خطب فيها الخطباء خطباً رنانة وأنشد الشعراء قصائد عامرة. وقد لوحظ آنذاك أن أغلب الخطباء والشعراء كانوا يلبسون أقمشة أجنبية والعياذ بالله ".
" ومن العجيب حقا أن نرى بين مثقفينا ورجال دين فينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحاً : فهو تارة يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها ، وتارة يعتدي أو يهدد بالاعتداء لأي سبب يحفزه الى الغضب تافه أو جليل ، ضارباً عرض الحائط بتلك المثل التي تحمس لها قبل ساعة ".
إن مثل هذه الحالات بعيدة جداً عن أن نصفها علمياً بـ" ازدواج الشخصية " إنما هي تناقض بين الأفكار والسلوك ، أي أن الفرد يؤمن بقيمة أو يتبنى فكرة أو يدعو لها أو يصرّح بها لكنه يتصرف بسلوك مناقض لها،كأن يدعو الى أن تمارس المرأة العمل ضابطاً في الشرطة أو الجيش غير أنه يمنع ابنته من التقديم الى كلية الشرطة أو الكلية العسكرية.
وعليه فان الأصوب علمياً أن نصف ذلك بـ " تناشز الشخصية " الذي يعني التنافر أو التناقض أو عدم التطابق بين ما يعتقد به الفرد وبين ما يقوم به من سلوك. وطبيعي أن ابتكار مصطلح جديد لن يزحزح مصطلحاً استقر في ذاكرة الناس منذ سبعين سنة حتى لو كان أكثر انطباقا على الحالة ، فضلاً على أن العراقيين كانوا قد استلطفوه وأشاعوه.
ومع ذلك يبقى الوردي عالم اجتماع فذ يدهشنا بنباهته وفطنته وعمق تحليله ويمتعنا بأسلوب عرضه وجزالة لفظه وسهولة معناه الذي جاء من نوع السهل الممتنع ، وهدفنا فيما أتينا عليه هو طرح وجهة نظر علمية تغني المعرفة عن ظاهرة اجتماعية عراقية..التقطها الوردي بذكاء عالم متيمز وطرحها بأسلوب كاتب ساخر،لكن الزمن تعداه الآن وصارت توثيقاً للتاريخ والأجيال.
لحظة وداع
كانت آخر مرة زرته بها في بيته حين كان مريضاً. جلست بجانب سريره المتواضع وتمنيت له الشفاء العاجل والعمر الطويل، فقال وهو يحدس أنها النهاية: ( أتدرى ماذا يعوزني الآن : إيمان العجائز)، ولم افهمها إلا بعد حين. وأضاف مازحا": " تدري آني ما احب الماركسيين..بس ما أعرف ليش احبك..تعال انطيني بوسه "..قبلّته وحبست دمعة في العين وشهقة في الصدر.
وللأسف..فحتى مدينته (الكاظمية) لم تفه حقه..مع أن فيها مسؤولين من ابناء طائفته بينهم نائب كان معدماً بنى على ضفاف دجلة من جهة مرقد الأمام بيتا لنفسه بملايين الدولارات!..وتجاهل دعوة كنت وجهتها له وآخرين من قيادات أحزاب الأسلام الشيعي لاقامة تمثال له في مدخل جسر الأئمة مادّا يده نحو الأعظمية بوجه تعلوه ابتسامة.
إن استذكار الوردي في يوم رحيله ( 13 تموز 1995) ينبهنا الى حقيقة أزلية..هي أن الطغاة زائلون والعلماء خالدون.