TOP

جريدة المدى > عام > رواية الحلو الهارب إلى مصيره.. رؤية أخلاقية برفقة سكين باردة

رواية الحلو الهارب إلى مصيره.. رؤية أخلاقية برفقة سكين باردة

نشر في: 14 يوليو, 2020: 06:34 م

زهير كريم

عادةً ما تكون الصورُ المعروضة أمامنا للمدن الكبرى، هي صورٌ دعائية، استعراضية ومُمَكيجة، لكن العينُ غيرالمبالية تفضلها، العينُ العابرة التي لاتدقق كثيراً في المخفي،

والتي تبتلع طعمَ الترويج بشهية ورضا، عين السائح المنبهر، وعين الكاتب السياحية الخاملة، وعين الميديا الموجّهة الى نقطة ما، وأيضاً عين الحارس المتورّط وجودياً بإرث الأخلاق والتقاليد والأعراف، الهارب من إحساسه بوجود فئران تقرض التخوم وتتقدم لابتلاع الإرث كله. لكن الصورة الأخرى المضادة المتوارية، والتي عادة ما تكون ذات طبيعة مفارقة، الصورة المضحكة، المنحطة، لا يرغب أحد بإجهاد عينه في البحث عنها، إنها في الحقيقة صورة غير مرغوبة، مطرودة لأنها مبتذلة في عريها، فضائحية تفتح الفجوات العميقة في الكتلة المتماسكة للمدينة المثالية، وتهزّ الوقار الذي يظهر على السكان تحت الضوء، الصورة التي تأخذ شكل سكين جاهزة للطعن في كل شيء. 

وفي روايته الحلو الهارب الى مصيرة، يُرينا وحيد غانم تلك السكين الحادة، السكين الباردة التي لا تعتني بثنائية الظلم والعدالة، بل بالرغبة وحدها، باعتبارها محركاً خشناً يسحق كل شيء، ليس هذا وحسب بل يعرض أمامنا مشاهد الألم نفسها حتى نشعر ان الصرخة تتسلل الى نفوسنا، يعرض كذلك صور العنف والهشاشة قبل أن يأخذنا في رحلة هي أشبه بزيارة لمدينة من تلك التي خلقتها الرؤية الدستوبية المتوحشة، إنها المدينة التي نتحاشى الحديث عنها امتثالاً للسكينة والركود المريح، لكنها مدينة موجودة برغم ذلك، ولابد لنا أن نصادفها يوماً ما، وسوف يكون رفيقنا حينها، سوء الحظ. وعبر أزقة وأحياء بغداد والبصرة يقدم لنا السارد عبر عينه الكاشفة، مشاهد مروعة. 

عن الحياة المبتذلة، عن أربعين عاماً من العذابات ورائحة الدم والحب أيضا، عن الهزائم التي تتحوّل الى فجوات في الداخل، وعن الانتصارات الوهمية، عن الجمال الذابل، والعواطف المقموعة. 

والحقيقة أن هذا العمل كما أرى هو من أجمل الأعمال الروائية العراقية التي قرأتها خلال حياتي، نص يتسم بالوحشية والصلف والوقاحة واللامبالاة بالقوانين، نص متمرد على الزيف، لكنه أيضاً يحمل في نسيجته السردية صدقاً وجرأة وتمريناً شاقاً للوقوف أمام العريّ، نص يبحث عن حقيقة النفس البشربة المليئة بالذنوب، عن الضحية والذئب، عن الشهوة المدمرة، عن الرؤية الأخلاقية، الرؤية التي يرافقها سكين طوال السرد، يلمع لكنه سكين هو أقرب الى مشرط الجراح. 

وحيد غانم يفتح في هذه الرواية، كثيمة أساسية ملف المثلية بالكامل، ملف متشعّب صادم ربما، يٌدخلنا فيه أيضاً الى البيوت المشبعة برائحة المني والبذاءات والأجساد المشتعلة بالرغبة والقهر والإنكسار، يبعثر الأوراق كلها ثم يخلطها مع ملفات أخرى، ليُظهر لنا عالمِ الجريمة المليء بصورالقسوة، العنف والهروب من الماضي، الماضي الذي لا يترك الشخصيات هنا لفتح صفحة جديدة في سيرتهم المنهكة، إنه يطاردهم في كل مكان ويدفعهم الى ارتكاب المزيد من التحولات البشعة، كل الشخصيات هاربة من مصائرها، وليس الحلو وحده.

وفي النهاية نحن أمام نص هو خليط من الذوات المنكسرة، الهشّة، المستكينة لأقدارها، وأخرى هاربة ترتدي أقنعة لكي تشعر بالتوازن، فيه صورة مرعبة عن السجون والعذابات خلف القضبان، عن الحب المحرم والرغبة المتقدة الممزوجة بالدم، عن السياسة المصنوعة من عجينة الدين، عن الذئاب التي تعوي داخل النفس وهي تلعق جراحها. 

أنا في الحقيقة منحاز الى جماليات السرد في هذه الرواية، منحاز للمهارة في استدعاء الحكايات، منحاز أيضاً للفضيحة التي قشرها أمامنا وحيد غانم، بعينه المغامرة غير الكسولة، وبمهارة في إدارة جسد النص سردياً، لكي يقدم لنا في النهاية عملاً روائياً محترماً، ممتعاً، ومخيفاً ربما.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يدرس زيادة عدد منتخبات كأس العالم

بريطانيا ترفع 24 جهة من قائمة العقوبات على سوريا

العراق يترقب أمطارا غزيرة تستمر للأسبوع المقبل

وزير الإعمار: نصف مساحة العراق خارج خدمات الصرف الصحي

منفذ طريبيل يمنع دخول 2000 رأس غنم مصابة بأمراض معدية إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram