TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: في الشعر والحياة

قناطر: في الشعر والحياة

نشر في: 18 يوليو, 2020: 07:52 م

 طالب عبد العزيز

وانا ألمس جمرة الحرف الاولى، نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت صورة الشاعر والكاتب والمثقف بعامة لدي مقرونة بأستاذ اللغة العربية، ولا تتجاوزه الى مدرس التاريخ والعلوم والرياضيات وغيرها، وفي فترات لاحقة عرفت بان الشاعر إبراهيم ناجي كان طبيباً،

وأنَّ الروائي فؤاد التكرلي كان قاضياً، وأن الشاعر المصري محمود طه كان مهندساً وان هولديرن كان مجنوناً هكذا، توصلت الى أن الكتابة في الثقافة، شعراً ورواية ونقداً ليست حكراً على مدرس اللغة العربية، وإن المساحة مطلقة لمن احترق مثلي بنار السيد برومثيوس.

ولأنني، عملتُ بنصيحة الشاعر الرجيم آرثور رامبو: " من السخف أن تبلى ثيابُنا على مقاعد الدرس" فقد هجرتُ المدرسةَ، ولم أكمل تعليمي في العربية وآدابها، بل لم يبل ثوبي على مقعد ما في الجامعة، وظل الأمر غصةً في الحلق، مع انَّ جمرة الشعر لسعتني في سن مبكرة، وأخذني الشعر الى ضالته، فصرتُ أصطحب الكتاب الى البيت وفي الشارع والمقهى، ولأنَّ الحياة لا بد ماضية، فقد ذهبتْ بي مذاهب شتّى، فعملت في مهن مختلفة، سامية مرة ووضيعة مرة أخرى، وهكذا وجدتني فلاحاً في بستان الأهل، أصعد النخل وأجني وعتالاً في الميناء، أحمل أكياس الحنطة من العنابر المظلمة الى المخازن المظلمة أيضاً وجندياً في البحرية، أصلح السفن الحربية، ونجاراً في محل أحد الاصدقاء، وكاتباً، أجيراً في دائرة الزراعة، ومنتظماً في أحد الاحزاب، وعاملاً في مصنع لصهر الحديد وغيرها، في رحلة لم يفارقني الشعرُ فيها.

تذكرت الأيام القواهر تلك، وأنا أشاهدُ فيلم (باترسون) الذي أرشدني الى معاينته صديقي، الشاعر إبراهيم البهرزي، الفيلم يتحدث عن شاعر شاب، يعمل سائق حافلة، يجوب مدينة باسمه (باترسون) يسمع قصصاً وحكايات الركاب، ويحتفظ بقصائده في دفتر ملاحظات صغير. كان الشاعر يعرف اسماء وقصائد وكتب الكبار من الشعراء والكتاب والروائيين، لكنه، وفي ما بدا في الفيلم ظل يعاني من مهنته كسائق حافلة، يسمع شكاوى زميله السائق المناوب المتكررة كل يوم، ويصغي طويلاً لأحاديث الركاب في الحياة والصداقة والنساء، تتعطل الحافلة فلا يجد سبيلاً لأصلاحها، لذا، كان قليل الكلام في الفيلم، يكتفي بعينيه وهما يجولان في الأمكنة القليلة، التي يطالعها في رحلته اليومية بين البيت ومرآب الحافلات.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي عرفت الكثير من الكتاب والشعراء والفنانين ممن لم يمتهنوا تدريس العربية، بل وبينهم الطبيب والمهندس والمحامي والموظف البسيط في الدولة، وصاحب المتجر وعامل البناء، والعاطل عن العمل أيضاً. في الفترة تلك، وجدتُ أن الحياة بالشعر اكبر من أن تختزل في مهنة ما، فقد كان الروائي المغربي محمد شكري يصرح علناً بانه لقيط، وأنه عمل في مهن حقيرة جداً، ووقفت مطمئِناً نفسي حين عرفت بان كتّاباً وشعراء في العالم كانوا قد امتهنوا مهناً لا علاقة لها بالشعر والثقافة، فقد كان الشاعر الروسي سيرجي يسينن قروياً فلاحاً، والروائي حنا مينا مصلح دراجات هوائية وبحاراً، والاسباني ميغيل اردناندث راعياً للغنم، ولم يكمل والت ويتمان تعليمه فعمل صانعاً في مطبعة، وهناك الكثير من الشعراء الكسالى والمجانين ..

اللغة عشق، والشعر فطرة، والثقافة سلوك، والحياة قادرة على منحنا الكثير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram