د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
لطالما اعتبرت نفسي من محبي مبنى مميز، عُدتّ عمارته، وقتها، حدثاً تصميمياً لافتاً في الأوساط المهنية "السوفيتية" حينذاك.
حيث كنت، عندما ظهر ذلك المبنى، احضر لرسالة الدكتوراه في "معهدي": معهد موسكو المعماري (إذ أنا، أيضاً، أحد خريجيه في مرحلة الدراسة الأولية). كان عنوان أطروحتي "العناصر المعمارية المحلية وأهميتها في العمارة المعاصرة"، وكان البحث يتقصى عن قيمة العناصر المحلية التى امتحنت "فورماتها" واكتسبت حضوراً قوياً في الذاكرة الجمعية عبر عقود من السنين، والأهم كيفية توظيفها في العمارة الحديثة، بعد إجراء عمليات "التأويل" عليها بالطبع، وتفسيرها ضمن اشتراطات قيم المعاصرة ومقاصدها. كانت تلك "الثيمة" حين ذاك، تمثل هاجساً تصميمياً هاماً وجديداً في الخطاب المعماري العالمي، بعد "ضمور" قيم الحداثة ومبادئها التى كانت متجلية بشكل أساس في مقاربة "التيار الدولي" International Style وتطبيقاته ، وأظهرت موضوعة توظيف العناصر المحلية في تكوينات العمارة المعاصرة، في بلدان عديدة، وخصوصاً تلك التى تتمتع بثراء عمراني واضح أو تمتلك تراثاً بنائياً قديماً، أظهرت تلك الموضوعة تميزها في الممارسة المعمارية، وحازت على اهتمام كبير من قبل المصممين ونقاد العمارة. وأمست مفردة "جينيوس لوجي" Genius Loci اللاتينية (وتعني عبقرية المكان، أو روح المكان)، جزءاً أساسياً من "معجم" العمارة المعاصرة في نهاية الستينيات وبدء السبعينيات وفي تلك الفترة ذاتها، وتحديداً في عام 1970، ظهر ذلك المبنى، الذي أود الحديث عنه في هذه الحلقة من "عمارات". وأنا أعني، بالطبع، مبنى "متحف اوزبكستان الوطني" في طشقند، الذي صمم أولا ليكون مبنى ً"متحف لينين" في حينها بعاصمة اوزبكستان "السوفيتية" في ذلك الوقت، (المعماريان: "يفغيني روزانوف" و"فسيفولد شيستوبالوف"). ففي عمارته التي أراها لافتة ومميزة في آن، استطاع المبنى أن يثري النماذج التصميمية لتلك "الثيمة" المعمارية الجديدة، بتقديم رؤى خاصة في معني "التأويل" التصميمي، وفي أسلوب تنطيق مفرداته. وتزداد أهمية المبنى، لدي شخصياً، بكونه يستقي مرجعيته التصميمة (وفعله التأويلي) من خزين عمارة منتج <ما وراء النهر>، ذلك المنتج المبهر، الذي اعترف بأني مفتون به!
لهذا كله، فإن المبنى إياه، يحظى بأهمية عالية لديّ، وحتى أعده ..."قريباً" لي. وذلك، في الأقل، لسببين؛ أولهما لأن عمارته بدت مثالاً واضحاً (أراه مقنعاً ..أيضاً) في موضوعه: موضوعة الاشتغال على تأويل العناصر المحلية التراثية تصميمياً، والسبب الآخر، إنه يمثل نموذجاً ملائماً جداً لموضوع دراستي الاكاديمية، بالاضافة، طبعاً، وهو سبب آخر، يضاف الى ذينك السببين، إعتماد المعمار لمرجعية معمارية قريبة اليَ، ومفهومه لديً، وهي إحدى تجليات العمارة الإسلامية، التى اعتبر نفسي منتمياً إليها.
وقد بلغ اهتمامي بهذا المبنى وبلغة عمارته المميزة، شأواً كبيراً، بحيت أمست مفرداته التصميمية ذات تأثير قوي عليّ وعلى اجتهادي التصميمي. وعندما كُلفّـت في الثمانينيات من قبل المكتب الاستشاري التابع لكلية الهندسة بجامعة بغداد (وكنت أعمل فيه طيلة سنين الثمانينيات ولحد منتصف التسعينيات)، بتصميم "مجمع نقابات العمال" في مدينة "الديوانية"؛ ابتهجت كثيراً لهذا التكليف. (إذ أنني، أولاً، من مناصري العمل في المحافظات بباعث توسيع "الثقافة" المعمارية المعاصرة في بيئآت نائية. وثانياً، لأني أجد العمل في مثل تلك البيئات المحرومة، بمثابة "واجب" تفرضه اشتراطات المهنة، وحتى...متطلبات "الحس" الوطني ، ذلك لأني اعتقد، بان اقتصار العمل على العاصمة لوحدها، يرتقي لديّ، ليكون بمنزلة "النقيصة" المهنية، التي يتعين تجاوزها والعزوف عنها)! وأثناء اشتغالي على "تنقية" الأفكار التصميمية الخاصة بذلك المجمع، الذي كنت تواقاً بأن تكون عمارته مشوّقة، ومثيرة للانتباه، وأن تسهم تلك العمارة في تكريس مفهوم "المكان" ..او"روح المكان" ، بمعنى أن تحضر ثيمة "جينيوس لوجي" اياها في الحل التكويني لعمارة مجمع الديوانية، في تلك الأثناء، وأنا منهمك بعملي التصميمي، تذكرت "متحف لينين" الطشقندي، وأسفر ذلك الاستذكار الى نوع من صياغة واجهات، تتساوق مفرداتها التصميمية مع "مناخات" الحل التكويني لمبنى طشقند. وقام <عصام الكاظمي>،أحد "طلابي" حينذاك وصديقي الحالي (وهو الآن معمار يعمل في كندا) برسم مخططات المشروع ، مع اضفاء اهتمام زائد في إظهار الواجهات التى رأى فيها، هو الآخر، عملاً، يضيف شيئاً ما لبيئة الديوانية المبنية.
لم ينفذ "مبنى الديوانية" ، إذ تم الغاء "فكرة" البناء، كالعادة، بصورة مفاجئة.لأسباب لا أتذكر جيداً، الآن، تفاصيل بواعثها، بيد إنها لم تكن، بالعموم، مقنعة. لكن "اميج" عمارة "متحف لينين" الطشقندي، ترسخ عميقاً في ذاكرتي، كمثال جيد وناجع لعملية التأويل التصميمي . وعندما كنت، مؤخراً، في طشقند أثناء زيارتي المثيرة لبلاد <ما وراء النهر>، متعقباً نماذج عمارتها ودارساً نجاحاتها التصميمية، كان لا بد أن "أزور" المبنى الأثير لدي، ومشاهدته، لاول مرة، على أرض الواقع. بيد إني لم أفلح في تحقيق مرماي لضيق الوقت المتاح لي في طشقند؛ عندها قررت القيام بتلك الزيارة المرتقبة، أثناء رجوعي للعاصمة الاوزبكية للمغادرة، بعد انتهاء مهمتي في مدن وقصبات بلاد ما وراء النهر.
لم أكن أعرف تحديداً موقع المبنى بالمدينة. فالادبيات التى عندي معظمها تعود الى الفترة السوفيتية؛ كما لا اعرف ماذا يدعى الآن "متحف لينين". فاسماء الشوارع والأحياء تبدلت جذرياً منذ التغيير الشامل والدراماتيكي الذي طرأ على النظام السياسي في بداية التسعينيات. لا أحد الآن يعرف بأن شوارع المدينة وجاداتها العريضة كانت تحمل اسماء من قبيل "كارل ماركس" و"فلادمير لينين" او "فردريك انجلس" وغير ذلك من الاسماء التى كانت معروفة وشهيرة في الحقبة السوفياتية.
ووجدته، أخيراً أمامي، تماماً، في ذات "الصورة" التي كنت احتفظ بها عنه! المبنى المثير، المتواضع في الارتفاع (فقط ثلاثة طوابق)، والذي ينهض "حراً" Free Standing، طليقاً في موقعه، محاطاً بشوارع من أربع جهات، ما أكسبه "مكانة" موقعية مميزة، جعلت منه ليكون "حدثاً" عمرانياً في الحي الذي يتواجد فيه. اشتغل المعمار على "ثيمته": ثيمة تأويل الموروث البنائي المحلي، لجهة توظيفه في مبنى حديث بصورة مجدّة، بدت مقبولة، وحتى عقلانية أيضاً. فهو إذ اعتمد على "وحدة" Unit تصميمية مكررة، استطاع بها أن يستدعي ايقاع تكرار "الوحدات" التزينية، الحافلة بها تكوينات معظم المباني الإسلامية، وأن يجعل منها جزءاً من "شاشة" معلقة ضخمة، تظللّ واجهاته الأربع ، سعى المعمار وراء أن تكون سطوح تلك الوحدات المتماثلة "مخرمة" بالكامل، كما حرص أن تكون مساحات التخريم محصورة ضمن أشرطة رخامية، ذات أشكال هندسية متقاطعة، يُراد بها إضفاء نوع من "الخفة" البصرية على العناصر التزينية المشكلة لتلك الوحدات. وتعمل ثقوب التخريم، التي عملها من تقاطع الاضلاع الوترية، وديناميكة الأشرطة لإطارات "الوحدة" التزينية؛ بالاضافة الى "تشغيل" خاصية الظل والنور، المشغولة بعناية فائقة على سطوح شاشة الواجهات، تعمل جميعها على "تهشيم" البُنى الانشائية للمبنى، ومن ثم التأكيد على مبدأ سيادة وسيطرة "الفضاء" على الكتلة، وهو أحد أهم معطيات العمارة الاسلامية، هو الذي رافق معظم حلولها التكوينية.
لم يشأ المعمار أن يدخل عنصر"اللون" في مبناه، قانعاً في "لعبة" الظل والضوء التي اعتمدها في تخريمات الواجهة، ومكتفياً بنصاعة بياض عناصر مبناه، الضاربة، في بعض أمكنتها الى اللون الوردي، في مسعى منه للاحساس بالخفة والرشاقة اللتين يروم لجعلهما حاضرتا بقوة في قرار الصياغة التكوينية. تُؤدي مفردة "السلالم"، التي استخدمها المعمار بصيغ وأبعاد مختلفة، دوراً مهماً في الحل التصميمي للمبنى. فهي من جانب، تقوم باداء وظيفتها النفعية، ومن جانب آخر، يستثمرها المعمار للتأكيد على الإظهار التدريجي لشكل المبنى، وتبيان تفاصيله بصورة دقيقة الى حدٍ كبير. ويٌشدد المصمم على أهمية "السلم الأساس"، الذي يقود الى مدخل المبنى الرئيس، ويمنحه قيمة عالية في التكوين المجترح. كما يجعل من حضور درجاته العريضة، ومكانته التصميمية الواضحة، بمنزلة "الند النوعي" لكتلة المتحف ذاتها!
ويبقى مسعى المعمار في جعل عمارة مبنى المتحف، عمارة منتمية الى "مكانها"، في الوقت الذي لا يتخلى عن مقاربته الحداثية، يبقى ذلك من الأحداث اللافتة في تنويعات المنتج المعماري المحلي. ولئن قيمنا عمارته بكونها من "أجمل ما انتجته العمارة المحلية" وقتذاك؛ فما هذا سوى لأن المعمار المجد، استطاع أن يقدم لنا رؤية مبدعة وجديدة، في إشكالية توظيف العناصر المعمارية المحلية في المنتج التصميمي المعاصر، جاعلاً من مبناه "حكاية" مشوفة وممتعة ، في خطاب التأويل التصميمي!
ومعمارياً المبنى هما: "يفغيني روزانوف" (1925 -2006)، الذي درس العمارة في معهد موسكو المعماري مابين 1945 – 1951، وعمل مساعد الى المعمار السوفيتي المعروف جيلتوفسكي، كما رأس معاهد استشارية ـ وأحرز على لقب "معمار الشعب" للاتحاد السوفيتي (وهو أرفع وسام معماري وقتذاك)، صمم عدة مبان في موسكو وفي بقية مدن الاتحاد السوفيتي. والمعمار الاخر للمبنى هو "فسيفولد شيستوبالوف (1926)، وهو أيضاً درس في معهد موسكو المعماري، وصمم عدة مبان في موسكو وغيرها من المدن بضمنها "المسرح الدرامي" (1976) في مدينة "أرلوف"، كما رأس معهد استشاري لتصميم الأبنية المسرحية والرياضية"