ناجح المعموري
ذهب القاص حميد الربيعي نحو لعبة سردية ذكية ، لكنها بالمفاهيم النقدية معلومة . ومتعارف عليها ، حتى تحولت الى مصطلحات راسخة ،
انتجها العقل النقدي العراقي واعني به تحديداً الناقد والمفكر ياسين النصير الذي تحرك باتجاه حفرياته العميقة ، ذات الخصائص المؤسسة ، معتمدة على المعرفة واعتنى بها ، واعني به كل الذي اشرت له وهو مركز ابتداء هذا الرأي النقدي الخاص بقراءة مطر " للقاص حميد الربيعي انه " الاستهلال " الذي احترمه الناقد ياسين النصير وصار له " غيمة " وهو المخلق به والذي تمكن منه ورضى " الاستهلال " بالانفتاح كثيراً .
إنه حميد الربيعي العارف بأهمية العنونة للعمل السردي ولكافة الانواع ، لأنه يحمل روح النص ، يومئ للمتلقي كي يتسلل لما هو كامن في عمق الوحدات السردية .... إنه رقبة النص ، وهو ثرياه . كل هذه المعلومات وغيرها كثير ، هي التي صاغت فاتحة نصوص حميد الربيعي ، وأعني به الاستهلال . لكن القاص منح مجموعته فاتحة جديدة ، تنطوي على ذكاء ولفتة كاشفة عن مهارة لاختبارات السارد ، الذي هو القاص . للمجموعة استهلالها الشعري ، المركز جداً ، بحيث صار جوهرها الاول الذي منح المجموعة نوعاً من القوة واثارة الاسئلة حول ما قاله السارد في الصفحة الخامسة من مجموعته " يوم آخر ، لا تستتر ولا تكتمل غيمة عطر في متاهة ، متاهة ولا تنير ، إلا عند رواس وسواحل ، ستظهر في صباح اليوم العاشر ويراها آخرون حيث يتجمعون " هذا الاستهلال المتقدم بعد قراءة المجموعة . ولم يكن لهذا التوصل تأثير جوهري على درجة ونوعية التلقي لأني تعاملت معها عنونة للنص ولم تتشكل صيغتها التي رتبها السارد حميد الربيعي . ما حصل في هذا البناء المهم ، يمثل بعضاً من قدرات حميد الربيعي السردية ، واستمرار رغبته اللعبية ، الكاشفة للمتلقي عن وجود طاقة قصدية لحظة الكتابة ولم تكن المهارات في نصوصه حتى الروائية اعتباطية ، وتأكد لي بأنه ذهن مقتدر على اختبار ما يريده ويحلم به . ووجدت بأن عنوانات نصوصه تحولت الى نور مساهم بإضاءة فاعلية القاص في فتح منافذ للسرديات المتتالية ، وإن لم تكن كلها خاضعة لهذا المصطلح . لكنه مبثوث بهدوء في " يوم آخر / لا تستتر / حين يجتمعون / لكن لا يمكن تبرئة القصص الأخرى ، عن وجود مبثوثات فيها للوحدات السردية أو الجزيئات الحكائية فيها ، لتساهم بخلق حركة النمو والنجاح في ابتكار انسجامها مع بعضها البعض .
كنا قد اطلعت من قبل على روايته " أحمر حانة " وتكشفت لنا عن كوامن التاريخ وحضور وقائع حقيقة ، تصرف بها القاص وتلاعب بمكامنها ونجح بتكوين مساحات سردية ، مستلة من الماضي وتعامل معها بوصفها مبتكرات حديثة ، وموه عليها بمهارة وقدمها لنا لاعباً وحكواتيا ، له الخبرة في التسلل للتاريخ واستلال ما يراه ممكنا ليخلق منه سرداً متجاوراً مع غيره ، لكنه لم يكن بعيداً ، بل هو متآخ معه . فالتاريخ لدى حميد الربيعي عجينة ، هو العارف بكيفية تدويرها والاشتغال عليها ليمنحها لنا محكية ، مغايرة عن الذي كاتبه من قبل . والقاص يدرك بأن التاريخ مدونة انتجتها السلطة لتعلن بها انهيار الهامش الحياتي ومثلما قال : فالتر بنيامين بأن الحكاية هي شظية للسردية الكبرى التي هي التاريخ ، والاقتراب من السرديات الصغرى التي تتمحور حول الذات ، في بحثها عن موضع قدم في العالم . هكذا جمع " بنيامين " بين نقد التاريخ المتمركز حول الماضي . ودراسة الحاضر بنصوصه الادبية التي تنقل صوت المضطهدين في كتابات كانط ، وبريخت " .
حاول في هذه القصص التجريب وحيازة صفة لاعب ماهر ، واتضحت مهارته في انتقاء الكلمات واللعب بها ، بحيث تتحول بيده الى رمزيات ، تغادر المألوف وتحوز على تنوعات القراءة والتأمل . وولعه بالتاريخ او انتاج وقائع توحي بأنها تاريخية تمنحه فضاء حراً وواسعاً للتجريب واختبار التخيّل السردي وما يعطيه من نتائج ، خبرة حميد الربيعي تؤهله تخليق سرد تاريخي ، يقتنع به المتلقي ولا يكتشف القارئ فروقاً بين التاريخ الحقيقي او المزور ، ويتأتى هذا عبر الخبرة والمهارة في الاشارة بذكاء لما هو في التاريخ ، مثل الاسم ــ على سبيل المثال ــ والتخيل لسرد تاريخي ، يتوافق مع ما يريده القاص من أفكار وقيم . لتأخذ موقعها ضمن الوحدات السردية في النصوص ، والتي تدخل مسار سيرورة خاصة يبتكرها القاص ويشحنها بطاقة التاريخي المتخيّل ، هذا ما كان متمتعاً بحضور واضح في روايته أحمر حانة. كما يلعب التاريخي دوراً مغذياً لتعددات الوجود الخاص بالتاريخ الحائز على القوة والشعرية " ولذة النص " وهي لذة تأتي من التعرف الى سرًّ مودع في تفاصيله . بل هي حاصل الرحلة التي ينخرط فيها قارئي يحاول فهم نفسه في المقام الأول . وقد ظل وفياً لرؤية ، ترى في النص لغة ، ولأنه كذلك لا يمكن ان نقرأه دون استحضار اكراهات هذه اللغة كما قال سعيد بنكراد .
هذه ملاحظات عامة عن تجربة سردية تستحق العناية ولي عودة ثانية لتأشير ملاحظات اخرى ضرورية عن المتوالية القصصية التي سجلتها انا مقدمة للكتاب النقدي للدكتور علي ابراهيم " قصص الرواية " .
وكذلك تقشير القصص الثلاثة المهمة يوم آخر / لا تستتر / حيث يجتمعون //
للتاريخ حضور شفاف ، أضفى على السرد طاقة مانحة التنوع الرمزي والتداخل مع اليومي والتزامن مع الوقائع التي كرست اهتمامات القاص لما يتبدّى عليه التاريخ في الاستثمار القصصي . الهوية ذاكرة الجماعات ومروياتها الشفاهية الخاصة بالذاكرة والتاريخ وهي ــ أيضاً ــ الماضي الخاص بالجماعة . لذا دائما ما يكون التبادل والقبول المستمر والتعامل معه بوصفه إرثاً فاعلاً للانتقال من جيل الى جيل آخر . هذا الإرث المتنوع ( قومي ، وديني ، وعشائري " لا يعيش في سلام دائم وإنما يقود صراعات مع الآخر مع مكوناته القديمة ، لكنه كثيراً ما يكون بحاجة الى وفاق رمزي وموضوعي ، لأن الهويات تتفكك في الصراعات المادية وتوترها تشظيات لا تترك فراغاً واسعاً ، لأن الهوية ستحضر بديلاً ثقافياً من خلال صيرورتها وبقاء تكونها مفتوحاً / ناجح المعموري / جدل الهويات ، حوار المجاورة او صراع الاختلاف / ضمن كتاب / الهوية تحديات العصر / ابن النديم ودار الرافد ص 213//