اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: تحت مظلة التذكّر الثقيلة

قناطر: تحت مظلة التذكّر الثقيلة

نشر في: 21 يوليو, 2020: 06:41 م

 طالب عبد العزيز

في الأمكنة القديمة نحيا، وبطابوق البيوت التي غادرناها، ذات يوم، نحكُّ جلودنا ندماً، وعلى أسيجتها الخشب نقف، في محاولة للعثور على كثير فقدناه، هناك، في فعل من أفعال الحنو والتطهر، ربما. في الزوايا المهملة اليوم، نتلمس، وعن يقين، معنى الأزمنة وهي تمضي غادرةً، نتأمل معنى الحياة، هذا النهر الذي يندرس بنا كل لحظة.

قد يعتقد بعضنا بان هذه خصيصة المبتلين بالوعي، أو هي مما تفعله الكتب والسينما والرواية بأصاحبها، أو هي ما ينتفع منه السائح في تجواله باقل تقدير، لكنَّ الحنين، الذي يشدنا الى هناك جارف، بكل تأكيد،هكذا، دونما تسميةٍ له.

كان المصلّون الجدد في قريتنا قد هدّوا الحسينية، التي بناها المحسن (محمد المتروك) من الطابوق والطين والملاط الجبسي الأبيض، وسقّفها بالخشب الصندل، والحصر القصبية قبل 100 عام تقريباً، لا أجد في الأرض مكاناً يشعرني بالطمانينة مثلها، ولم أتحسس معنى للشهادة إلا في ما كان يقوله الخطيب على منبرها، كان القماش الاسود الذي تتدثر الجدران به دثار روحي، وللطين الرطب الذي يسّاقط من فروج طابوقها رائحة الدم الحسيني الطاهر، وفي كل ركن من أركان بهوها ما زلت أحتفظ بطعم دموعي هناك، ولم أرَ أجساداً تتهاوى حزناً وملامة كالتي كانت تدور في حلقاتها ظهيرة يوم العاشوراء، ولم أذق طعاماً أشهى وألذ من ذاك الذي كان يُطهى بنار الجذوع التي كان أبي ياتي ببعضها من بستانه، الآن، أشمُّ رائحة الدخان المنبعث من موقده، أتأمل دلال القهوة بمختلف مقاساتها، وهي تصطف سوداء وادعةً حزينة. 

وكنت قد دخلت حانة قديمة في روما، ذات يوم، وطالعني كرّاس التعريف بها على أنها من أعمال بدايات القرن التاسع عشر، ولا سبيل الى التحقق من صحة الزمن، لكنَّ، الأثاث المعمول باليد من الخشب والخيزران، وقد بدا معتماً جداً أحالني الى غابته الاولى، الى الاكتاف التي حملته من هناك، وفي اللوحات المعلقة على جدران الصالة انتصب من يحدثني الزيت والألوان وعن ما تشظى بالزمن، ولعل صاحبة الحانة، المرأة السمينة، بقطعة الحشمة على رأسها، التي اعطت ظهرها المغارف ودنان النبيذ والقناني الكبيرة، أعلى الرف، كانت قادرة على طمأنة الفضول عندي، كذلك كان الغبار المتراكم على الأشياء، التي لا أحسن تسميتها ربما (آلة موسيقية، أقداح فخار، حبال سفن قديمة، القناع الروماني الذي لم يزحزحه احدٌ من سنين طويلة) ذلك كله، كان مدعاة لتأمل الوجود المنهدم بفعل الدهور، لقول شيءٍ في ما يتكسر فينا من الانتظار، أو للوقوف طويلاً على نهر، ظل يندرس تباعاً. 

ذات يوم، اضطرني البنّاءُ الى ردم ترعةٍ صغيرةٍ، كان يراها عائقاً امام إكمال البيت، فجاء بماكنة الحديد تسوّي الترعة بالارض، لم يفرحني قوله: بان الارض باتت صلبةً، وأنَّ البيت سيكون أكثر أماناً، أبداً، إنمّا وحدي، رحتُ أعددُ الرجال الذين وقفوا عليها، وأحصي الأشجار التي انتصبتْ على ضفتيها ذات يوم، وأرددُ اسماء البلابل والفواخت والعصافير التي بنت أعشاشها هناك، في العالي من نخلها وصفصافها وسفرجلها ووو..

يا إلهي: مَنْ ينصفنا يا ترى، من يحمل عنا مظلة التذكر الثقيلة هذه، نحن الواقفين على أنهار أيامنا، التي راحت تندرس تباعاً ؟ 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    شكرا يا سيدي على كل ما تكتبه في هذه إلا عمده الرائعه الصحه و السلامه لكم

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram