TOP

جريدة المدى > عام > من ضيق الأفق إلى اتساع العبارة في رواية (فضاء ضيق) لعلي لفتة سعيد

من ضيق الأفق إلى اتساع العبارة في رواية (فضاء ضيق) لعلي لفتة سعيد

نشر في: 23 يوليو, 2020: 07:30 م

فوزي الديماسي *

محسن ، ولا يحمل من حسن الاسم ومحاسنه إلا زيف التسمية ، أمّا الرّسم فشقاء معرفيّ دائم، وسفر على شوك السؤال متجدّد،

وترحال في مناكب العدالة ومفاهيمها وسبل تحقيقها على أرض جبلت على الحروب والتناحر والتدافع الطائفي والإقليمي والدولي ومعانقة الفقد واليتم والخراب في ظلّ غياب العدالة المنشودة المفقودة ، والتي تمثل لمحسن أيقونة وجوده وقادحه ، فيكدح على طريقها ومن أجل تجسيمها كدحا ليزيّن بضوئها سماء الوجود وجوده، ولينفخ من روحها في ثنايا حياته وحياة اليتامى والثكالي والأرامل أملا بعد فناء وسكينة بعد حيرة .

حياته في دنيا الخلق ليست كالحياة، وذاكرته مضمّخة بالآلام والفقد والأوجاع . يعيش الحرب وخسرانها، وقد حلّ الدّمار بكلّ شيء فيه ، ولم يترك وراءه إلا الفراغ والأشجان، فلقد أتى الخسران على الأهل والأحباب في ليل العراق المدجّج بالفجيعة والدمّ، وغابت سلوى في عالم الشهادة لتحيا فكرة في عالم الغيب، وحديثا كما النحوي، بل هو أشد همسا في رحم الكلمات.

محسن وهو الموصوف بالمقندس، و التسمية منحوتة من صخر السخرية وحجارة الأحزان، والمقندس في أعرف صحبه ومقول قولهم هو الجامع بين المقدس والمدنّس يصارع رياح الغربة في الوطن وحيداً، لا يكاد يقف على أرض صلبة في الناس. حتى عمله في دنيا الخلق ومواطن الرزق يوحي بعوالم الليل والموت، فمن حفار قبور إلى موظّف في مؤسّسة الأيتام، وبين الموت واليتم يحاول محسن تضميد جراحه بالكتابة، ولكن الجراح متناسلة، وأنّى لها أن تندمل وسلوى جرحه النازف على الدّوام في عيشه وفي كتابته حين يختلي إلى نفسه المكلومة محض خيال وبعض كلمات، وهو مثقف منكود الحظ يحيط به جمع من الصّحب ممن احترفوا ركوب المفاهيم، وممارسة رياضة الحجاج بمنأى عن حال الناس ومتاعبهم ، ففيهم من يعيش على الأرض ببركات السماء، ومنهم من ثار على العمامات السوداء والبيضاء، وضرب بالحوزات عرض الحائط ليجنح لحياة باللهو والتحرّر، مقبلاً على فتنتها ومفاتنها غير مدبر، وبين هذا وذاك تتقاذف محسن أمواج سلوى هذه التي يكشف اسمها عن رمزية موحية، ويحيل صداها على عوالم من الأحجيات، في فكّ شيفراتها اكتشاف للطريق الملكية إلى قيعان محسن وخفايا وطن جريح الخطوات. يعيش الرجل بمنأى عن "عراق التناقضات" وفيه، ويقيم في حلقات صحبه ونقاشاتهم وتناقضاتهم وأوجاعهم وانتخاباتهم ومراقدهم وعمائمهم وأحلامهم بالغياب يعيش بينهم وليس منهم وبينهم ، فحياته سلوى وهي التي كانت سبب وجوده ، وقادح الفرح في حياته، ورمز فرحه ، ومبعث سعادته، ومكمن الداء والدواء في عيشه .وفي دنيا الكتابة وهو الروائيّ المجيد بشهادة النفاد .

" فضاء ضيّق"على رحابته يتحرّك فيه محسن وبقية الشخصيات، نصّ مفعم بالأوجاع والجرأة والأسئلة، يتزيّا من حيث البناء بتقنية الحوارفي أكثر منعطفات الرواية وفصولها، والحوار في بناء النصّ السردي وعوالمه يمثّل لحظة مكاشفة نفسية للشخصيات المتحرّكة في فضائه، ومن خلال هذه الحوارات وبفضلها تكون سرائر الشخصيات جميعها في متناول المتقبل/ القارئ وبين يديه، يعرف عنها ما تظهر وما تبطن دون تورية، أو مساحيق ، فيتعاطى معها وكأنّه يعرف عنها كلّ ما تبدي وما تخفي في سرّها وعلانيتها .

كما لعبت الرؤى وزوايا النظر للراوي دورها في جعل الشخصيات على تعدّدها وهي واحدة لاشتراكها في الوجع تعبّر عن ضيق صدرها صراحة، وهي التي تمثّل نخبة العراق وعنوانه إذ فيها الروائيّ والنقد والمعلّم. وتعرض هذا الشخصيات بكثير من الصدق تنوّع المجتمع وثراءه من حيث البنية الفكرية والعقائدية والايديولوجية ، وخاصة أنّها تمثّل العقل المثقّف المسكون بالأسئلة الوجودية الحارقة كسؤال الله/الإنسان/الإنسان في علاقته بذاته والآخر في ظلّ المراجع الدينية والحوزات وتعدّد القراءات الدينية الأخرى، وتنوّع طرق الإقامة في العالم ومفاهيمها. فقد ساهم الحوار بنوعيه الداخلي والخارجي (حليم، محسن، علاء، مجتبى، جمعة...) في تعرية الواقع وجراحه. وغابت في بنية النصّ من حيث أنواع الرؤى وزواياه الرؤية من خلف، والأخرى من فوق، وكأنّ السارد يمعن في تجذير الشخصيات وخاصة شخصية محسن في راهنها وراهنيّته، كشخص لا تاريخ له يذكره ويتذكّره، ولا مستقبل ينتظره ، إلاّ سلوى، هذه التي اختزلت كل الأوجاع والأحلام والأمنيات، وكانت بذلك العشيقة والسلوى، وسلوى في دنيا الناس وليل العراق فقد زوجها رمز رجولته في الحرب فكانت من حيث لا تحتسب في خانة الأرامل وزوجها على قيد الحياة .

إنها سلوى المرأة التائهة في وطنها ، بل هي الوطن التائه عيته، وطن فقد فحولته وفحوله في زمن غاب فيه الرجل المدافع عن حصونه ليولد من بد ذلك طبقة من عبدة الكراسي وعشّاق الوجاهة والسلطان .

إنّه زمن الهزيمة ينقله نص مشحون برسالاته المشفرة، مسكون بفضاعة الحياة وضيقها وسوداويتها، حتى المكان داخل نسيج السرد على اتساعه وتنوّعه (كربلاء، الكازينو، المقهى نادي الأدباء) يبدو مغلقاً وضيقاً وقاتماً على معادلة القهر والاستلاب والاغتراب، فيوحي بالضيق والظلمة رغم إبهامه لنا بالانفتاح وهذا ما جعل حلقات النقاش الحقيقية تحتضنها القاهرة في بعض الرحلات وكأنّ المكان في العراق عدوّ له آذان وعسس وعذّال .

إنّه العبث يلفّ النصّ من كافّة أقطاره، ويوحي بالموت دون تورية، وكأنه يرسم من خلال الرموز ( اغتيال علاء، هجرة سلوى ) لحظات عدمية لا تبشّر بصبح قريب، أليس الاحتلال، وحياة البذخ الزائفة في صفوف أبناء الجلدة ولحظات استقالة المثقف دليلاً على موت الوطن على عتبات صنع التاريخ، ألم يمارس محسن الأستمناء وهو الاعوب فلا خصب ينشد ولا حياة يبني بل هو الضياع والإستمناء بأنواع الفكرية والوطنية والحضارية، شأنه في ذلك شأن حمدية المومس المقبلة على حياة الجنس في القبور والحفر، أليس محسن المثقّف والكاتب هو الوجه الآخر لحمدية المومس، والحال أنّهما يمارسان طقوس الموت ذاته، فهو المحترق على أبواب كتاباته، وهي المحتضرة بين أحضان عشاق الرذيلة في القبور..فهو الموت لا محالة محدّق بكلّ شيء.

*كاتب من تونس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram