علي حسين
شغلت المطربة أحلام وهبي الأوساط الفنية في بغداد، لسنوات، فهذه الفتاة التي دخلت الإذاعة العراقية عام 1954 لتغني "عشاق العيون" مقابل أربعة دنانير، قررت أن توزعها على الفقراء .بين ليلة وضحاها أصبح اسمها على كل لسان، كان السحر عند الناس آنذاك هو الراديو. لقد استحوذ الأثير المغني على البيوت.
جاءت هذه البنت من البصرة إلى بغداد، صبية تحلم بعالم من الشهرة والأضواء، كان عالم بغداد جميلًا ومختلطًا وملونًا، في هذه المدينة التي تتطلع إلى المستقبل بعيون مفتوحة ، كان هناك ناظم الغزالي ، وعفيفة اسكندر ، وزكية جورج ، ومحمد القبانجي ، وداخل حسن وحضيري ابو عزيز . كانت بغداد في الخمسينيات. والقادمون يأتون من قريب ومن بعيد. يغنون، ويعشقون، ويحلمون بيوم يصبحون فيه نجوماً، قادرين على العيش برفاهية، وعلى الحصول على جهاز راديو، طراز "سيرا" أو "باي"، يغني لهم من داخل البيت، بدلًا من اسطوانات جقماقجي وبيضافون.
الإذاعة نفسها، "إذاعة بغداد"، كانت على بعد خطوات من الفندق الذي سكنته أحلام، هناك ستلتقي بالملحن الكبير ناظم نعيم، الذي كان مغرمًا بما يلحن ويدندن، يعتقد أن الأغنية والفرح والجمال ستصنع بلدًا يكون ملكًا للجميع، ومجتمعًا آمنًا لا تقيد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يحرس استقراره ساسة يسرقونه كل يوم، عاش ناظم نعيم مثلما عاشت أحلام وهبي ، أسرى لأحلامهما، يتنقل ناظم نعيم في الألحان، لينتهي غريبًا يئن على بلاد تُنكر أبناءها لأنهم لا يمارسون الخديعة، ولا يحملون صور ساسة الصدفة، وتشدو أحلام وهبي "هاي من الله قسمتي" ليكون نصيبها من المرض والمعاناة والعزلة والنكران. ستحلم "أحلام وهبي" مثل أستاذها ناظم نعيم بعراق هادئ، أنيق، طافح بالأمل. ولم تكن تدري، مثلما لم يكن ناظم نعيم يدري، أنّ بغداد ستدير ظهرها لهما في أواخر حياتهما، ليعيشا ما تبقى لهما من العمر مرضى وحزانى، في الوقت الذي نجد عبعوب ومن لف لفه " يترافسون من أجل الاستحواذ على كراسي بغداد.
يتهمني البعض بأنني أحن إلى الماضي وأتاسى عليه، أعذروني أيها السادة لأن الجديد الذي نعيشه باهت، بلا لون ولا طعم، ونبحث عن الذين صنعوا لنا الفرح، لأن الذين نعيش معهم اليوم لا يجلبون لنا سوى الهم والغم. ونتمنى أن نُصبح دولة سوية تكرم الذين يستحقون التكريم، ولا تجرب مثل ذكرى علوش التي لا نعرف من سيتحمل فشلها، وهل هناك نظام سياسي حقيقي يعتبر الخراب والأزمات وآلاف الضحايا دليلًا على النجاح؟
ماتت أحلام وهبي بعد أن أثقلت حياتها الوحدة والأحزان، اختبأت وراء جدران العزلة، لكن أغنياتها ظلت تطل علينا توزع الفرح والأمل وتحيي الشجن في القلوب التي تريد لهذا الوطن أن يبقى يبحث عن " عشاق العيون" دائمًا .