د. أحمد مهدي الزبيدي
قال قائل لخلف الأحمر 180هـ :(إذا سمعت أنا بالشعر استحسنته ، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك .
قال (خلف) : إذا أخذت درهمًا فاستحسنته ، فقال لك الصرّاف : إنه رديء !. فهل ينفعك استحسانك إيّاه؟!) فغلب خلف الأحمر على قائله، حتى ذكر المؤرخون اسم الغالب وغيّبوا اسم المغلوب. ولو افترضنا صلاحية قانون انشتاين وعودة الماضي واستضفنا المتحاورَيْن في واقعنا المعاصر لضحك المغلوب على الغالب.. ولتنازل أبو عمر بن العلاء من تصنيفه ( علماء الشعر أندر من الكبريت الأحمر ) ولسكت الأصمعي عن تمييزه ( فرسان الشعر أندر من فرسان الحروب )
ولا شك في أن غياب النظرية النقدية العربية، بسبب الضعف المعرفي العربي، جزء من غياب المنهج النقدي العربي، وضعف الخطاب النقدي القادر على أن يشكل وعيًا معرفياً وفكرياً يسهم في دربة الشاعر وتطوره وتحوله، فغاب الناقد الحقيقي القادر على لملمة الخطى الجمالية برؤية كلية ، غاب ( الناقد البصير ) الذي يُبصّر الشاعر خفايا اللغة والموازنة بين النصوص ، والنظر إلى التجربة بصورة كلية، ولعل الغريب في الأمر وما يثير الدهشة أن المؤسسة الأكاديمية تعاني من هذا الغياب - أيضاً – فقد يتخمنا ( البروف ) بكتاب نقدي ، وإذا فتشت في فصوله تجدها مقالات ودراسات مختلفة لشعراء مختلفين، ثم يجمّل كتابه بمقدمة يدعي فيها الناقد أن ( منهجه ) يمسك بتلابيب النصوص والشعراء المختلفين ، حتى وإن كان هذا الشاعر في واد والثاني في واد آخر.. كتاب ( يكثّر ) من السيفي العلمي للناقد ولكن من دون وفرة علمية تسهم في تعضيد المنجز النقدي العربي .. وبالتأكيد – جداً – هذا التوصيف السلبي لا ينكر التجارب الإيجابية المؤسسة لطروحات نقدية كبيرة كعز الدين إسماعيل وعبد السلام المسدي وكمال أبو ديب وجابر عصفور وصلاح فضل وسعيد يقطين وعبد الله إبراهيم.... ولكن إذا كانت الثقافة العربية قد أُبتليت بثقافة الآيديولوجيات التي ضعّفت الثقافة المعرفية فقد انعكست تلك البلوى على المنجز النقدي العراقي وغاب الناقد العارف والمرجعي والمؤسساتي
وهل ينتهي الأمر عند الجامعات والكليات؟ لا طبعاً ، فليست الإداريات وحدها من تستغل النقد ، المنابر الاحتفائية هي كذلك، وإن كانت شفاهية، لا تضمن التدوين لكنها تضمن جميلاً قد طبع على جبين المنقود ، فالمجاملات والغنائيات والأخلاقيات لها حضورها غير الخجول في الكثير من المحاضرات والندوات والمهرجانات و (التوقيعات) .. ولست بناقم أو هاجٍ لما يبديه الآخرون من آراء تجاه نصوص حتى وإن كانت أراء انطباعية أو ذاتية، ولكن أقف بالضد من منح إجازة نقدية بأسلوب نقابي وليس معرفياً، وبطريقة أكاديمية يتطور بها (الناقد) حسب الدرجة الوظيفية والتخصيص المالي و(تقييم الأداء !) وتلصق الصفة على (البطاقة التعريفية) لا على المنجز .. أقف بالضد من تناول تجربة شعرية ، في نعومة حروفها، وبزغة لغتها، إذ على الشاعر أن ينثر نصوصه حتى تستقر تجربته وتكتمل رؤيته وتنضج لغته فتكون أمام الناقد مساحة نصية كافية لتقييمها ودراستها وأبداء الرأي فيها .. بل الأمر الأهم هل عاد الشاعر يهتم – كثيراً – لقول الناقد ؛ أيهما يغريه أكثر ، حين ينشر قصيدته في الفيسبوك ، : رأي ناقد أم كثرة اللايكات والتعليقات ؟ لقد أصبح معيار نجاح النص الشعري ما يحصل عليه الشاعر من تعليقات مغرية ولايكات لا تحصى ، وإن حشر ناقد خشمه في النص بتعليق لا يرتضيه الشاعر انبرى إليه أهل النخوة ومسحوا في نقده الأرض ! نعم اسمع كثيراً ، ومن مثقفين !! هذه الجملة (لقد مسحت بفلان الأرض ببوست) و (لطمته على فمه) .. وحقيقة أنا مع الشاعر الذي يفرح بكثرة المعجبين الافتراضيين بنصه ، فهذه ثقافة جديدة علينا أن نحترمها ونتفاعل معها ، بعد هيمنتها ، ولكن دعوني أكشف لكم ظني : إذا كانت البنيوية قتلت المؤلف وما بعد البنيوية كثرت من المتلقين، وإذا كان النقد الثقافي قتل النقد الجمالي، وإذا كانت قصيدة النثر آخر التحولات الأسلوبية في الشعر الحديث والميتا سرد آخر التحولات الأسلوبية في الرواية فإن (النقد النقابي) آخر التحولات النقدية العراقية .