TOP

جريدة المدى > عام > العلامة الاجتماعية: المجتمع يصنع علاماته

العلامة الاجتماعية: المجتمع يصنع علاماته

نشر في: 17 أغسطس, 2020: 06:33 م

أحمد شرجي

أكد السويسري ( فيرنناند دوسوسير) على ضرورة دراسة العلامة اجتماعياً، لأن العلامة تكتسب وظيفتها ومعناها من خلال صيرورتها وتناميها داخل المجتمع .

فكل المجتمعات لها علاماتها الخاصة، أو بمعنى آخر صنع الكثير من علاماتها الخاصة ، والتي لا يمكن أن تجد لها معنى وظيفي في مجتمعات أخرى، إلا أن هناك الكثير من العلامات اللفظية والبصرية والإشارية وجدت طريقها الوظيفي داخل مجتمعات متعددة حتى أصبحت أيقونات ليس في ثقافتها الحاضنة فقط ، بل داخل مجتمعات أخرى ، رحلت إليها العلامة ، مثل الإشارات الضوئية ودلالة كل لون ، وكذلك الماركات التجارية، وهذه تسمى بالعلامات الكونية بحكم معرفة دلالاتها داخل الثقافات الأخرى. وداخل الثقافة / المجتمع الواحدة هناك علامات تكتسب وظيفتها الاشتغالية ضمن الفترة الزمنية التي ولدت فيها ، وقد تعيش أو تموت ضمن جيلها/ فترتها الزمنية، وهذه نسميها بالعلامات (الجيلية )، حيث تنمو وتموت ضمن الفترة الزمنية التي ولدت فيها ، ولا ترحل إلى جيل آخر، والعكس أيضاً صحيح فهناك علامات ترحل من جيل الى جيل وهذه نسميها بالعلامات (الترحيلية) . مثل الأزياء والمفردات اللفظية وقصات الشعر والموسيقى ، بل حتى الديكورات وأسماء الولادات الحديثة والخ.. ونجد بأن مفردة( الفرهود) والتي اقترنت بنهب ممتلكات اليهود في الخمسينيات رحلت الى أجيال لاحقة ، والتصقت بكل عملية سرقة ونهب، ولكنها ماتت تداولياً بعد 2003، حيث شاعت كلمة ( حواسم) رغم إنها تحمل ذات الدلالة الاجتماعية ، لكن الجيل الجديد تداول مفردة الحواسم التي اطلقت على الحرب ، ورغم مرور أكثر من 17 عاماً لكن ظلت المفردة مقترنة بالأشخاص الذين اغتنوا بطرق غير شرعية بعد عام 2003. وهناك علامات عقائدية صنعها المجتمع وأخذت بالتداول كما الحال في ( التراكتور) الذي انتشرت صوره على وسائل التواصل الاجتماعي ، بوصفه صاحب ( كرامات) و وشح بأدعية الخلاص من قبل البسطاء، وكذلك ( عمود الكهرباء)، وهناك الشجرة التي تبكي دماً عند مدخل مقام( السيد ادريس بالكرادة)، رغم أنها تفرز صمغها الأحمر ، لكن بالنسبة للكثيرين دماً، وغيرها الكثير، و هناك مقاربة ثقافية للشجرة في الكثير من الثقافات ، وإنْ اختلف مدلولها الاجتماعي، حيث تعلق على الاشجار بما يشبه تعليق الأماني ، كما في التيبت و جورجيا في الطريق المؤدي إلى الحدود الروسية ، حيث في أعلى الجبل توجد الكثير من الاشجار محملة بأشرطة الأماني وبألوان مختلفة.

إذاً نحن أمام نوعين من العلامات الثقافية يصنعها المجتمع ، عبر تداولها و وظيفتها الاجتماعية، وهما الجيلية والترحيلية ، الأولى يصنعها جيل وتحمل سماته ومفرداته وبالتالي علاماته ، والترحيلية هي العلامات المرحلة من جيل إلى جيل نتيجة الممارسة الاجتماعية ومن ثم رسوخها عبر انتقالها جيلياً ، ونعني بذلك صنع العلامة داخل الثقافة والمجتمع كما في علامة (أقفال الحب ) والتي ظهرت في ألمانيا وبالتحديد في مدينة كولونيا ، ولاسيما على جسر ( Hohenzollernbruecke ) ،ويعتبر جسر محطة كولون من أهم جسور العالم بسبب مرور 1200 قطار عليه يومياً، بالاتجاهين، عبر ضفتي الراين. وهو أهم معبر ألماني للسكة الحديد باتجاه غرب ألمانيا حيث فرنسا وهولندا وبلجيكا ومن ثم بريطانيا. يبلغ طوله 686.6 متر وهناك 4 خطوط للسكك على الجسر تسمح بمرور 4 قطارات عليه كل مرة. يطلق عليه الأهالي بـ ( جسر المحبة )حيث تحافظ الفتيات فيه على محبتهم عبر وضع قفل تكتب الفتاة عليه اسم من تحب ! وتقفله فوق الجسر وترمي مفتاح القفل في مياه النهر ! ولهذه العادة المنتشرة بين ابناء المنطقة قصة عشق مشهورة تشبه الأسطورة بين فتاة اسمها Nada وشاب اسمه Relja تعود لمطلع الحرب العالمية الأولى حيث غادر عشيق الفتاة الى اليونان للقتال هناك ووقع في غرام فتاة يونانية الأمر الذي حطم قلب العاشقة الصربية التي بقيت تنتظر بلا فائدة عودة فارسها Relja الذي ذهب بلا رجعة والتي بقيت محافظة على حبها له حتى أصابها المرض وأودى بها مع مرور الزمن وجعل منها أسطورة عشق صربية . ومن قصة الحب البائس التي انتشرت في المنطقة بدأت تظهر الأقفال التي ترمز للحفاظ على العهد بين المحبين بعد أن يكتبوا اسمائهم على قفل ويضعونهم فوق الجسر الصغير الذي ترونه في الصورة باعتباره المكان الذي كان يلتقي فيه العاشقان اللذين افترقا و لم يلتقيا بعد ذلك فرّق بينهما الموت ومع مرور الزمن تكاثرت قصص الحب وبالتالي الاقفال حتى تشكلت مع مرور الزمن غابة من الاقفال التي ينبغي أن تربط بسلسلة تمتد على طول الجسر، و يمكن رؤية العديد بل الآلاف من أقفال الحب هناك. و انتشرت إلى باقي المدن الألمانية، ومن ثم انتقلت إلى باقي المدن الأوروبية، وظهرت أقفال الحب" على جسر الفنون في باريس عام 2008، فعندما يقع اثنان في الغرام يقومان بإغلاق قفل ذهبي اللون على سور أحد الجسور أملاً في الاحتفاظ بعلاقتهما للأبد. لكن ما يبدو أنه عمل رومانسي ربما يقدم عليه عدد قليل من الناس، تحول إلى ظاهرة أصبحت تمتد على كل جسور باريس على نهر السين، وصولاً لجسر ليوبولد سيدار سنكور الضيق قبالة متحف أورسي وجسر سيمون دو بوفوار قبالة مكتبة فرنسوا ميتران.علماً بأن علامة اقفال الحب أخذت بالتداول/ الانتشار في الكثير من البلدان الأوروبية ، وحتى وصلت في بعض البلدان العربية ومنها العراق وبالتحديد في مدينة الناصرية ، حيث أخذ العشاق تعليق أقفالهم على جسر الحضارة.

بينما نجد ذات العلامة في المنطقة العربية والاسلامية ولكن بقصدية مغايرة وأن كانت تتفق بالمطلق مع فعل فتح القفل، كما في المغرب عند ضريح مولاي بوشتي الخمار في تاونات وكذلك ضريح سيدي بو القنادل، وغيرها الكثير ، و في العراق ، ويذكر عبد الكريم السعيدي بأن الزائرين يربطون" ولاسيما النساء منهم، الخيوط والأقفال بمختلف الأحجام والأشكال حول مفاصل شبابيك أضرحة الأولياء والصالحين والأئمة وهم كثيرون، وفي معظم الأحيان لا تمتلك الجهة المسؤولة فنياً عن الشباك مفاتيح لفتحها، ربما بسبب ضياعها أو تعمد الزائر عدم ربطها مع القفل، لذلك يصعب التخلص منها لاحقاً، وقد تضطر الجهة المسؤولة عن عمليات فتح الشباك وإدامته كما هو شأن العتبة العباسية (وهي الجهة المشرفة على ضريح الإمام العباس بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهما) إلى كسر القفل بواسطة مقص حديدي، ذلك لأن ثقافتنا لديها فوبيا من الأقفال وهي تدعو إلى إبقاء الاقفال مشرعة، لأن ذلك بمنزلة فك النحس ورفع الغمة، ومن ثم فإن صاحب القفل سوف يفرح عندما يأتي مرة ثانية ويرى قفله وقد فكت قيوده"، وبالتالي أصبحت ثقافة الأقفال جيلية وترحيلية ففي الثقافة الأوروبية صنعها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتقلت إلى الأجيال الأخرى وثقافات متشابهة أيضا، بينما ترحيلية وعقائدية ارتبطت بالموروث العربي الاسلامي حسب رسوخها وتداولها الاجتماعي داخل الثقافة ، وترتبط بأمنية الرابط ، علامة ثقافية يصنعها المجتمع نتيجة التداول والممارسة. وبالتالي ترتبط العلامة بمدلولاتها الاجتماعية نتيجة التداول والوظيفية والاهم من كل ذلك ، المجتمع يصنع علاماته نتيجة الحاجة والظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبحكم التداول تصبح أيقونات داخل المجتمع، حالها حال الإشارات الضوئية والعلامات المرورية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram