فخري كريم
كان ٨ شباط ١٩٦٣ مؤشرًا ليومٍ كابوسي، ومرحلة رسمت صورة العراق بدم آلاف النساء والرجال وشقت طريقًا مزحومًا بالخراب والموت والسواد الصامت.
يومها وصلت بغداد مشيًا هاربًا من سجن الكوت مع الشهيد محمد الخضري. كنا خلال سبعة أيام نقطع الطرقات الوعرة الموحلة في الريف ونتوسد دماءنا كلما استطعنا إلى قيلولة سبيلًا. ودون تردد أو تفكيرٍ في العواقب على والدته وشقيقتيه فتحية، الطالبة في معهد الفنون الجميلة، ومها، التلميذة في الصف الثالث الابتدائي. ودون أن يتفكر جعفر بعواقب استضافتنا تجاوز مصيره الشخصي الذي كان موتًا محققًا كيفما تصرف. وربما كان مصير العائلة مجتمعين حرقًا، وهدّ المنزل على جثثهم.
أتذكر ابتسامة فتوح التي لم تتنكر لميولها وانتمائها لعائلتها الكبيرة مجاورةً لشقيقها جعفر المتفرد في إقدامه وتحديه واستعداده للتضحية بحياته.
كان بإمكان جعفر عبد الخالق الصفار أن يتردد بدواعي مواصلة نشاطه الحزبي وما يتطلبه ذلك من تدابير السرية والصيانة في تلك الظروف العصيبة المُثخنة بالجراح والآلام المضنية. وما يخفيه المستقبل من أيامٍ تتوشح بالدم والسواد.
استقبلتنا أم جعفر الطيبة الشجاعة وفتوح المفعمة بالحيوية، بابتسامة مرحبة ووجه بشوش. لتظل مها، ابنة الثامنة، فاغرة الفم أمام هذين القادمين، غريبي الاطوار بملابسهما العربية الفلاحية ومظاهر التعب والجوع بادية عليهما. وقد عفَرتهم الوحول وبقايا بلل المطر الذي لم ينقطع طوال أيام مسيرتنا المتسللة بين القرى والفيافي. وخلال لحظات شعرنا بأننا في بيتنا وبين أسرتنا وقد أُحطنا بعناية بالغة من المودة والكرم، دون ادنى مظهرٍ للخوف والفزع في ذلك الجو البعثي المفعم بالموت والأحزان. لم يخالجني الشك في أنني بين أمٍ ثانيةٍ رؤومٍ وشقيقتين كأنهن اكتشفن أخًا عائدًا بعد غياب. ظل جعفر برجولته وبسالته وتفانيه يرمز الى الشيوعي الذي جُبِل على مواجهة المكاره وتحدي مشاق اختياره الصعب، وهو يحتضننا بودٍ فائق...
بقيت مها متفكرة خلال ساعات بما يجري حولها. وقد دفعها الفضول لتُسِرَّ صديقتها الحميمة ثائرة صبري، التي استشهدت مع رفاق آخرين في بيروت تحت أنقاض القصف الإسرائيلي، عن الغريب القادم الى الأسرة . لكنها في الأيام التاليات كشفت عن سريرتها الطفولية بكل ما فيها من حنان ومحبة عفويةٍ واستعدادٍ للمشاركة كفرد في أسرة مفعمة بالوفاء لقيمها الإنسانية البطولية.
بعد بضعة أيام من وجودي، وبعد أن غادَرَنا الخضري ليلتحق برفاقه في تنظيمات الريف، بدأت قناة العراق ببث اعترافات مهزومين عافتهم سوح النضال. وإذا كان مفهومًا محدودية طاقة البعض على تحمل عبء الصمود وعدم القدرة على مواجهة التعذيب على أيدي فاقدي الشرف السياسي من البعثيين، ورغم أن ضعف البعض لم يكن تخليًا حقيقيًا عن انتمائهم الفكري، وانما خوفًا من الموت، كان بعض تلك الاعترفات دنيئا ومجردا من الشرف، كمعذبيهم، متطوعين بإذلال، للاساءة والتشهير برفاقهم واسرهم المناضلة التي ضمتهم. شعرت حينها وانا اتابع معهم بحرج وحزن وإحساسٍ بالنفور تعاقب المعترفين في قناة العراق مما أثار فيّ قيم النخوة والتحدي، بإعفاء أمي وأخي وشقيقتي من مغبة وجودي بينهم وما قد يسببه ذلك من تعريضهم للموت او الإذلال. ارتديت ملابسي وهممت بالخروج حتى إذا كان شبح الموت يتربص بي ما أن تطأ قدماي الشارع حيث الحرس القومي المتأهب للقتل، بعد البيان رقم ١٧ الذي يدعو البعثيين وحرسهم والمواطنين الى قتل الشيوعيين إينما حلّوا ..!
ما ان انتبهوا حتى هجم علي جعفر ومسكتني الوالدة من خلف وتشبثت بتلابيبي الصبية التي تفتحت على المآثر والتحدي. وصعدت فتوح الى سطح المنزل وصبّت علي طشتًا مليئًا بالماء وتناوب البقية على التشبث بي وسحبي الى داخل المنزل، وجعفر ينادي سنذهب معك وتتحمل أنت دون معنى مسؤولية إعدامنا.
قالت الأم: أنت ابني الثاني..
وقالت فتوح: أنت أخي..
وبقيت مها تنوح بصوتٍ خفيت متظلّم ..
اعادوني الى البيت وظلوا يسهرون على تأمين سلامتي.. حتى لحظة إلقاء القبض علي لاتمام محكوميتي. وفي معتقلي وسجني كانوا أول الزائرين..
اليوم ماتت فتوح بعد صراع مع مرض عضال، لتتركني أغالب نشيجي المكبوت.....
فتوح ليس الموت بمستطيعٍ على تحويلك الى حافة النسيان، بل الموت بالنسبة لك حضور دائم في وجدان محبيك.
وداعًا ....
جميع التعليقات 1
عبد الستار الصافي
سرد جميل وموجع في نفس الوقت من تلك الأيام السوداء ، وينم عن عرفان بالجميل للعائلة التي إحتظنتكم .... ملحوظة لاتغيّر شيئاً ، البيان كان رقمه ١٣ وهو للحاكم العسكري العام رشيد مصلح