ريسان الخزعلي
يتردد في أكثرمن موقف ثقافي تساؤل جوهري يطرحه الكثير من المتلقّين للأعمال الإبداعية : هل أن َّ المبدع فرد في مجتمع أو أنه ُ فرد من مجتمع ؟ .
إن َّ تساؤلا ً بهذه السعة لابد َّ أن تكون غايته الإستفهامية الفصل بين التفاعل والتفرّج . وهنا لابد َّ من التوضيح ، أن َّ طرفي المعادلة في الأعمال الإبداعية : الإرسال والتلقّي ، غالبا ً ما يبدوان في موقفين متقاطعين . المتلقي يطمح إلى استلام سريع واضح يُثير المتعة الآنية ، مبررا ً موقفه بإستفهام صادم : لماذا الإبداع ؟ ..، في حين أن َّ المبدع في موقف آخر مغاير ، موقف تشكّل بفعل مؤثرات عدّة ، منها : التجربة ، الموهبة ، الثقافة ، الرؤية المغايرة ، الرؤيا العالية ، التفاعل مع تحولات المدارس الفنية والجمالية وكشوفات النظريات النقدية والمناهج التحليليّة ...الخ . وبفعل هذه المؤثرات ، فإن َّ المبدع يُغاير استفهام المتلقي ( لماذا الإبداع ؟ ) بإستفهام آخر : ماهو الإبداع ؟ . ومن هذين الإستفهامين ، قد يبدو للوهلة الأولى ، أن َّ كلّا ً من المبدع والمتلقي في موقف حقّاني ، غير أن َّ الإلتباس الخفي يبقى قائما ً في طبيعة الإجابات المحتملة لكلٍّ منهما . وهنا لابد َّ من وقفة تقييميّة محايدة تأخذ بعين الإعتبار مديات التباين الثقافية ، فالمبدع يجد نفسه غير مسؤول بصورة مباشرة عن الأميّة الإبجدية أو الثقافية لدى المتلقي الذي يشكو من صعوبة التلقّي ، وليس بإستطاعته ( أي المبدع ) أن يُقدّم تسليات جاهزة . ولكي يخرج التوصيف من الإطلاق والتعميم ، وعلى افتراض أن َّ المتلقي الآخر يمتلك مقوّمات ثقافية تؤهله لإستقبال الإبداع ، إلّا أن َّ الذي يحصل ، هو أن َّ البعض من هذا الآخر- كما نتحسسه بإستمرار – يُبدي ملاحظات تُشير إلى غموض وصعوبة في تلقّي العمل الإبداعي ، ولا يقوى على استلامه جزءاً أو كلّا ً . وهنا يتحتم على المبدع أن يلتفت كثيرا ً إلى تاريخ الإبداع ويتمعن في المنجز المتحقق الذي حقق توصيلا ً وقبولا ً ، حيث أن َّ التجارب الإبداعية المتنوعة والمدارس الفنية والجمالية ، سبق َ وأن أوصلت إلى المتلقي الكثير من الأعمال رغم اختلافها في الشكل والتشكيل والمفهوم والبناء والرؤيا : الواقعية بأنواعها ، الرمزية ، الصوريّة ، السريالية ، التكعيبيّة ..ألخ . وبذلك يكون التعليل جازما ً ، من أن َّ المبدع عندما يكون بتماس عال ٍ مع التجربة الحياتية الشاملة – سطحها وعمقها – النابضة بالهم الإنساني ، والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والنفسيّة التي تحصل في المجتمع ، بعيدا ً عن التجريد والوهم والغموض المفتعل ، فإن َّ المتلقي سيستقبل إبداعه بالوضوح الذي يتمناه ، رغم الرمزية والصوريّة والسريالية والتكعيبية .
إذن ، بإستطاعتنا القول ، إن َّ ثمة خيطا ً ليس خفيّا ً يربط بين هواجس الإثنين ، ألا وهو خيط الإبداع الحقيقي ، الذي من عُقده : لماذا ، عمَّ ، لمن ، كيف – يكتب المبدع ، وبالتأكيد إن َّ الإجابات المحتملة لا تفترض التسطيح والتبسيط المكشوفين ، وإنما تفترض الهدف الإبداعي الذي يسمو بالإنسان من أجل عالم أرقى وأنقى وأبقى . وعندما يجد المتلقي ، أن َّ شيئا ً من هذا قد تفاعل في ذات المبدع وأظهره متماسكا ً وقادرا ً على كسب الرهان ، رهان الإبداع والتوصيل ، عندئذ ٍ قد نتوافر على فكّ بعض الإلتباسات التوليديّة والذوقيّة والتذوقيّة .
إن َّ طمر الرأس في رمال التبريرات ، لن يُجدي الإثنين نفعا ً ، لأننا بحاجة إلى تحقيق المعادلة الإبداعية : الإبداع زائدا ً التوصيل يساوي الفعل والنجاح ...