طالب عبد العزيز
كم مكلف هذا التلفت، ويا له من شقاء، هذا الذي لا تعرف فيه ماذا يريد منك غريمُك، وكم ثقيلة هذه النظرة التي تتلقاها منه كل يوم. باهظ جداً والله، ثمن ما تضمره لي، ويغضبني هذا الذي يوغر صدرك، أوقفتني بين يقينك ويقينك ثم طالبتني بما تريده مني، أين أنا منك ؟ وقد أخذت الحجر والمذر اليك، وتركتني في سبخة ما لا أريده لك ولي، أنت تنزع جلد المعني وأنا أرمم القول بما يناسبك، ذلك لأنني حدُّ الدم، ولأنك حدُّ السيف.
أختلف عنك فأنا رجل مسكون بالحياة. أعانني الشعر على قتل الوحش الذي في صدري. عندي روح ترتعدُ فرحاً أمام مشاهد الصدق والنبل والحب والرقة والعذوبة ... وفي قلبي موضع لا تدرك معانيه إلا الملائكة التي لم تخلق إلا للنور، ولا أقول شعراً، إنما لا أكاد أمسك دموعي في مشهد عصفورين متحابّين على سعفة. وسأذهب أبعد من ذلك لأقول:" لطاما اجتنبت رشَّ الماء في أمكنة اتخذها النمل مسارب لنقل مؤونته في غرفة النوم، فانا لا أطيق تخريب مساكن المخلوقات الضعيفة هذه، ولطالما اعترفت بظلمي للحشرات الصغيرة، ذات الإبر الصماء، وأنا أجمع العسل من خلايا النحل التي ربيتها، ومنحتها من جهدي ومالي الخاص الماءَ والسُّكرَ والرفقة والطعوم، هناك شيء من صحبة مع الاشياء هذه، ويؤذيني أنني أستعملها طامعاً ومتصالحاً، المخلوقت البائسة هذه تريني صلفاً وعنجهية في روحي، هناك ضميرٌ خفيٌّ يمنعني من التجاوز على ما هو حق وتقليدي في الحياة. فأنا لا أجرؤ على قطع سعفة تضايقني في نخلة، علّتي في ذلك أنها ربما كانت مأوى لفاختة، أو أنَّها صلُحت موضعاً لقدم بلبل غريب، لا أتحدث شعراً، أبداً، لكنني مخلوق حزين في تعامله مع الأشياء الضعيفة، في عالم يتحققُ بأساً وقوةً ونذالة.
أشفق على الذين يتوقوفون طويلاً عند القضايا الانسانية الكبيرة، على عظمتها، ويغمضون أعينهم عن آلاف القضايا والمواقف النبيلة، التي صنعها أناس عاديون، لكنها عصفت بالضمير الإنساني. مع يقينهم بأن العدل والظلم لا يتجزآن. أمضى (يحيى العيّاش ) رحمه الله، حياته فلاحاً في أحدى قرى ابي الخصيب النائية، يحرث ويغرس ويجني، وحيداً في غابة من النخل شائكة، لكنه لم يرزق بولد، بل ولم يكن له عقب حتى، ثم أنه أصيب بالشلل الذي أقعده فيما بعد، فصار يُفلح الأرض مستعيناً بعكّازه، يستقيم مرة ويسقط أخرى، ترفعه راية الأمل مرة وينوء بحمل خسرانه مرات ومرات، وفي لحظة انسانية صادقة صاح بشبيهه في الحرمان من الولد، الفلاحَ اليائسَ الآخرَ (خوّام العبدالله) صيحته التي دوّت وما زالت مدوية في النخل:" أصعدْ له، لا تتركه ينساك، خذ من غضبك ويأسك وقوتك ونحولك وكل ما بين يديك من العدل والظلم عنده سلماً وأصعد له، قل له أن يمنحك من ولده وغلمانه واحداً، واحداً لا غير، لئلا تكون كما تراني عليه".
خلف الصيحة المدوية هذه، صيحة يحيى العياش هناك ما لايحصى من الظلم والألم والفقد والنسيان، ومثل الإصغاء الذي توقف عنده خوّام العبدالله هناك ما لا يمكن تصوره من السلالم العاطلة التي لم يبلغ أصحابها بها السموات، ومثل جيف مكتوبة على تلال مهجورة تفسخت صيحات كثيرين في فضاءات وأزمنة لم يرصدها أحدٌ، ولم يسمعها ربٌّ لهم، لكنهم، ما زالوا الى اليوم، يكررون صيحاتهم، بذات الحناجر المبحوحة، بذات الوجوه الشاحبة المطلية بالحاجة والجوع والندم ... الصيحات اليائسة تلك ظل النخل يفرقها في الريح، وتتناوب الأنهار تغرقها في الأنهار، يمرُّ العابرون بها فلا يعيرونها انتباهةً.. أما، نحن، الذين طال وقوفنا في المفاوز والمديات فقد اتخذنا من يأسنا مادة لحياة لا معنى لها ونمنا.