لطفية الدليمي
تعالت الأصوات في أوروبا على مدى الأعوام الأخيرة حول تراجع مكانة المثقف وانعدام تأثيره في الحراك الاجتماعي والسياسي، وبدا أن دورالمثقفين الفاعلين قد اضمحل وماعاد للكتاب والفلاسفة والفنانين ذلك التأثير السحري في الجماهير كذلك الذي مارسه (موريس بلانشو ) و (سارتر) في ثورة الطلبة 1968
وماعاد لأفكار فيلسوف مثل ( هربرت ماركوز) أحد أعمدة ( مدرسة فرانكفورت ) ذلك التأثير الصاخب يوم أصبحت أفكاره وكتبه أناجيل الثورة الطلابية بخاصة كتابه ( الانسان ذو البعد الواحد ) الذي كشف فيه مبكراً عن القيود الاستهلاكية البشعة التي كبلت الإنسان المعاصر وقيدت حرية التفكيروالتخييل واتخاذ القرارات الحاسمة التي تحدد المصير ، كشف ماركوز خدعة (التقدم وسعادة المجتمع ) التي توهم بها السلطة مجتمعاتنا الحديثة وتعمد عبرها إلى احتواء الإنسان وتعديل رغباته وتدجين تطلعاته التي تكفلت بتوجيهها أذرع المؤسسات المهيمنة مما أفضى إلى تهاوي منظومات الضوابط الضامنة للحرية والكرامة الإنسانية – تلك الضوابط التي بشر بها مفكروعصر التنوير، وتحول هدف الإنسان في الوجود من تطوير الذات والارتقاء بالمجتمع الى تعظيم هوس الاستهلاك والإنتاج والاختيار بين السلع المغرية ، ويتفق ماركوز في هذا مع أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع ( زيغمونت باومان) في سلسلة كتبه : "الحداثة السائلة" و"الحب السائل" و"الزمن السائل " و"الحياة السائلة " التي تناول فيها تأثير مابعد الحداثة وسيولة الزمن وهوس اقتناء السلع واجتناء المتع مع افتقاد لحرية اتخاذ القرارات في الشؤون المصيرية .
غابت حرية النقد والتأثير الفكري إزاء هوس الاستهلاك الجنوني وانساقت الجموع مع هذا السيل الجارف من المغريات بسلوك روبوتي ، وغرق إنسان عصرنا في إدمان الشهوات التي صادرت أية نزعة نقدية لديه وطوعته ليكون أداة مستهلكة للمنتجات التي تروجها وسائل التواصل والإعلانات بدءاً من الحب والجنس ونمط الطعام وطرز الملابس وليس انتهاء بعبودية المراهقين والشباب لطوفان الالعاب الالكترونية وخدمات وسائل التواصل .
أوكلت مهمة ترويج ( ثقافة الاستهلاك ) في هذا العصر إلى جهلة وأشباه متعلمين يقودون مزاج المشاهد المستهلك ـ ويقدمون في المحافل على أنهم مثقفو عصر الاتصالات (المؤثرين )وبينهم فتيات إعلان وفاشنستات ، وتوارى منتجو الأفكار والمفاهيم الجديدة منسحبين إلى عزلتهم التي أمست ملاذهم الآمن لإنتاج أفكارهم وتقديم رؤاهم المتبصرة حول المجتمع والسياسة وآفاق المستقبل الإنساني ، وعكفوا على مصادرهم ومراجعهم وموسوعاتهم وتجاربهم الفكرية ، ونأوا بأنفسهم عن فوضى التعميم الجارح الذي ماعاد الناس يميزون فيه بين المثقف والفيلسوف والكاتب الصحفي ومقدم البرامج الثقافية و( فتاة الإعلان المؤثرة) ، وتساوى لدى الجموع المتعجلة المثقف المهموم بإنتاج الأفكار والجدل الفلسفي وابتكار المفاهيم المستجدة لعالم متغير مع ( المؤثرين) الجذابين ونجوم الإعلام الذين غدوا الممثلين الرسميين لثقافة بلدان ذات عمق ثقافي عريق فقدت بريقها الثقافي وتأثيرها التاريخي .
توالت هجمة نجوم الميديا على فضاءات القرن ال21 واستقطبت البرامج الحوارية الخفيفة مشاهدين كثراً بتقديمها حوارات سطحية مع أشباه كتاب وكاتبات ضحلي الثقافة وآخرين طارئين على الفن والأدب ، وتحولت وجوه (إعلانية ) من مدوني التفاهات ومروجي السلع والعطور والأزياء في برهة زمن مترنحة إلى شخصيات مرموقة ( مؤثرة ) تحتل الصدارة في المهرجانات ( الثقافية العربية ) ويطاردها المصورون والصحافة ، وغدت أيقونات يقتدي بها الشباب في أسلوب العيش والتبرج والتنافس الشرس على التربح بأساليب مبتذلة تحط من الكرامة الانسانية ، وتعرض تفاصيل حياتها لمرتادي وسائل التواصل ، وكلما ارتفع عدد المتابعين والمتابعات استقطبت الشخصية المزيد من الاعلانات عن مصنوعات مختلفة تحصل مقابلها على أموال طائلة وهي تسوّق وهم السعادة للمستهلكين المدمنين على متابعة الموضات المستحدثة .